يتسم الاقتصاد السوري طيلة ثمان وأربعين سنة أو يزيد، من حكم الدولة الشمولية، بالفوضى المنظمة، والفساد المستشري، والإفساد المقصود، وهيمنة قوى واستطالات اقتصادية “كمبرادورية ” آلت على نفسها الامساك بدفة الاقتصاد ضمن سياق غايات وأهداف تصب في النهاية لصالح هذه الفئة أو الشريحة – وهي ليست طبقة بالتأكيد –التي تنطحت متحالفة مع شرائح السلطة الأخرى، للسيطرة على منتجات الربح الوفير القادم من كل مفاصل المجتمع والاقتصاد السوريين، وقد استطاعت هذه الشريحة، ومنذ بدايات مرحلة السبعينيات، من القرن الفائت، أن تستأثر بكل أقنية الاقتصاد، الأكثر ربحية، والأكثر دسمًا، فكانت القطط السمان حينًا، ورأسمالية الدولة حينا آخر، وكل ذلك وقبله وبعده، فجمعت واستجمعت في المؤسسات الاقتصادية، الصغيرة والكبيرة، للقطاع العام والخاص، وكذلك المشترك في حينه، حتى بات الوضع الطبقي في سورية، يتركز في طبقتين اثنتين لا ثالث لهما، طبقة موسرة بل عالية الثراء، وهي صغيرة بالتأكيد، وطبقة أخرى متجمعة من كل الطبقات، تحت خط الفقر، بل تصنف عالميًا تحت خط الفقر المدقع، فتعاون الفساد الاداري معها –أي مع عالية الثراء – في معظم حالات حركتها، وتحالفت معه، ذلك التحالف البائس وسيء الذكر، لتنتج واقعًا مجتمعيًا لا يخفى على أحد، منهك القوة، ومنفلت من عقال التماسك المجتمعي، ومتآكل البنية تحت وطأة الفقر وسطوته، فانتشرت الرشاوى في كل دوائر الحكومة ومؤسساتها، وبوضوح وفجاجة فاضحة، وبتشجيع من رؤوس متنفذة في النظام، لأن الفساد والإفساد يغطيها ويجعلها حالة طبيعية في سياقات إدارة فاسدة بالمجمل، مما اضطر بعض الشرفاء، وهم كثر، ، لأن يتجهوا إلى العمل الإضافي أو الثاني، رغبة منهم في لجم وكبح غول الفقر والعوز، الذي يزحف باتجاه الأسرة السورية، من ذوي الدخل المحدود، أو من عمال المياومة، وما شابههما، وهي حالة مجتمعية تنعكس بالضرورة على تركيبة الأسرة بحد ذاتها، فتجعل من رب الأسرة أشبه بآلة تعمل ليل نهار، لتعود مساء وقد أنهكها التعب، فتنام رغمًا عنها، ومن ثم تعود في اليوم التالي إلى نفس الدوامة، وهذا ما يترك آثاره على حالة التعليم في الأسرة، وحالة التآلف المجتمعي، والتواصل ضمن الأنساق المجتمعية، التي كانت تُعرف عن المجتمع السوري برمته، ناهيك عن عدم كفاية الحاجات الأساسية اليومية للأسرة، رغم كل هذه الأعمال الاضافية، هذا إن توفرت، فالدخل أقل من الانفاق، وحالة العجز في الميزان التجاري للأسرة مستمر في التراجع والنكوص، أما الديون فتتراكم يومًا بعد يوم، وهذا ما يترك ذيوله على حالة المحبة والتعاضد والتآلف داخل الأسرة المحددة والممتدة أيضًا .
كان هذا الوضع الاقتصادي الآيل للسقوط، هو الشرفة التي أطل منها الشعب السوري نحو ثوران مجتمعي كبير، تحقق مع بداية الثورة الشعبية السلمية، التي انطلقت أواسط آذار 2011 منهية بذلك حالة الترقب والانتظار، التي وسمت المرحلة الأخيرة من حياة الناس قبل ثورة الحرية والكرامة.
انطلقت الثورة، وهي تحمل تبعات كل تلك المرحلة من العسف والقمع، وهدر إنسانية الانسان، والعوز المعيشي، والإنهاك المجتمعي، وهو حمل كبير، وتركة ثقيلة لا ضير في ذلك، ومع بداية الثورة استطاع الانسان السوري أن يحمل كل تلك الأثقال على كاهله، وينطلق معلنًا: أنه كفى هدرًا للاقتصاد والانسان معًا، ومن ثم المجتمع بقضه وقضيضه. كفى عسفًا، وقتلًا لإنسانية الانسان. كفى سرقة لثروات الوطن، التي باتت نهبًا للغادي والصادي، من أصحاب النفوذ والشرائح المنتفعة، القريبة من السلطة وأصحابها، ناهيك عن الامتيازات التي استأثر بها البعض دون سواه.
وقف الانسان السوري ليقول بملء فيه ” واحد واحد واحد الشعب السوري واحد ” وهو شعار طالما رفعه الشعب السوري، وهو صادق بحق، ومندمج حقًا وواقعًا، فبالرغم من كل ما عاناه هذا الشعب، ما زال لسان حاله يقول: الشعب السوري واحد، حيث المسؤولية عما جرى تقع على كاهل المستغلين من رجالات السلطة دون سواهم وهذا الصوت يعبر عن وعي مطابق، ومتقدم على الكثير من حالات اللاوعي التي شهدها الشارع السوري أثناء ثورته.
لكن استمرار الثورة لسنوات سبع وأكثر أرهق كاهل المجتمع حاضن الثورة، حيث توقفت عجلة الاقتصاد، الفاسدة بالأساس، وخاصة المؤسسات الصناعية الصغيرة والمتوسطة، وتجمدت الكثير من الأعمال التي كان يتعيش منها المواطن السوري، وتراجعت الزراعة بعد القصف بالبراميل والصواريخ النازلة فوق رؤوس العباد والبلاد، حتى بات الفلاح السوري يعجز عن الذهاب الى حقله للعمل فيه، خوفًا من القصف البراميلي، وهو اختراع أسدي وصناعة حاقدة، لأناس ينعتقون من كل انسانية. كما تم طرد الآلاف من العمال والموظفين من مؤسسات الدولة بحجة أنهم حاضنات للإرهاب، ومن ثم اعتقال مئات الآلاف، وزجهم في السجون، وبالتالي تغييب شريحة من الشباب الذين وهم عماد أي نهضة اقتصادية في أي بلد، وكذلك ظهور حالات الاعاقة الجسدية التي تتمظهر على الخارج من المعتقل، أو أنها تدفع به رغمًا عنه وخوفًا من الاعتقال مرة أخرى لمغادرة الوطن بحثًا عن العمل والأمان المعدوم في ظل هيمنة الأجهزة الأمنية السورية.
والحقيقة فان الحالة الاجتماعية السورية متفككة ومتأثرة بذلك، وقد بات ذلك سمة أساسية لكل الناس. علاوة على حالة التهجير القسري، الذي يمارس بحق المواطن السوري، خارجاً أو داخلًا، وما ينتج عنه من فقر وعوز وتهديم المنازل فوق رؤوس أصحابها.. وفرار من تبقى من الأسرة ليعود إلى منزله فلا يجده.. وهو الذي عمل طوال حياته من أجل أن يستحوذ عليه.
أما التعليم، فحدث ولا حرج، حيث التراجع والتسرب، نتيجة ذلك، والخوف من قمع السلطات وقمع الشبيحة. وفقد الكثير من الكادر التعليمي شهداء أو في السجون، وتهديم المئات، بل الآلاف من المدارس، أو تحويلها الى مأوى للمهجرين.
وفي الصحة الكل أصبح يعرف ما آلت اليه، بعد تهديم مئات المشافي، واعتقال الكادر الطبي بحجة العمل في المشافي الميدانية للثورة، وتجريم كل من يساعد مصابًا، أو يطبب شخصاً ليس من النظام أو شبيحته.
واقع سوري معاشي واقتصادي غاية في السوء، وانهيار اقتصادي واضح، ونهب مستمر في الثروات بل في كل مفاصل الدولة واقتصادها ومؤسساتها، وصناعة متوقفة ، وتصدير متجمد ، وليرة سورية تستمر هبوطاً، ليتجاوز الدولار الخمسمئة ليرة سورية، ولتشهد حالة الليرة تذبذباً، لم يسبق له مثيلا، كل ذلك ينعكس بالضرورة على واقع الانسان السوري، الذي بات اقتناء المازوت لديه حلماً، وركوب السيارة رفاهية ، وتشغيل الكهرباء اعجاز لم يسبقه اعجاز ، وتأمين جرة الغاز غاية لا تدرك ، والوقوف بالطوابير على الأفران عادة يومية ، والتدافع على أبواب الحافلات حالة مستمرة ، والسفر بين المحافظات من الصعوبة بمكان، بسبب القصف حيناً، وارتفاع أسعار ركوب البولمان تارة أخرى.
هذا هو الواقع المعاشي الاقتصادي للإنسان السوري هذه الأيام، والأيام القادمة حبلى بما هو أكثر سوءً، خاصة عندما تتوقف إيران عن دعم وتسنيد البنك المركزي السوري، الذي صار آيلاً للافلاس، بعد أن استُنزف من أجل دفع أثمان السلاح، لقتل الناس، ولتأمين الذخيرة، وكذلك لدفع رواتب الشبيحة والمرتزقة داخليين وخارجيين. ويبقى الأمل في انتهاء هذه الحالة الصعبة، وازاحة نظام الاستبداد المشرقي، ناهب الثروات. هذا الأمل الذي ما برح السوريون يتمسكون به، وينتظرون الفرج من الله أولًا، ومن تصميمهم وإرادتهم ثانيًا دون الاعتماد على الخارج الذي يترك الشعب السوري، بين فكي كماشة النظام من جهة، والانفلات الأمني، والتعصب من جهة أخرى، دون أن يتحرك أحد ما في الغرب أوفي الشرق، بشكل جدي، أو يبادر من أجل وقف القتل، ونزيف الدم، الذي لم يسبق أن حصل في التاريخ المعاصر للأمم في أصقاع الأرض. ويبقى العبء الأكبر على قوى الشعب السوري الحية والشريفة، التي لم تتلوث بما تلوث به غيرها ومازالت تتحمل المسؤولية تجاه شعبها وأمتها ونحو وطن ديمقراطي مدني، خال من كل أنواع القهر، وسلب الإرادة أو هدر إنسانية الانسان.
المصدر: أنا برس