تسفي برئيل
“لنا حق شرعي في الدفاع عن النفس، وهو حق غير مرتبط بغزة بأي شكل من الأشكال. ونأمل أن يأتي ردنا في الوقت والصورة التي لا تسيء لوقف إطلاق النار المحتمل في قطاع غزة”، هذا ما جاء في بيان البعثة الإيرانية للأمم المتحدة يوم الجمعة. كالعادة، نص إيران متعرج بما فيه الكفاية كي يسمح لكل طرف بتفسيره كما يشاء دون التعهد أو الرمز إلى طبيعة الرد وموعده، وبالأساس كيف سيتساوق الرد، إذا جاء، مع نية التوصل إلى وقف إطلاق النار الذي تسعى إليه جميع الأطراف الخميس المقبل.
الجهود الدبلوماسية الحثيثة التي تبذلها واشنطن 24 ساعة في اليوم، التي تشمل المحادثات مع إسرائيل ومصر وقطر وتركيا وسلطنة عمان والعراق والأردن وروسيا والصين أيضاً، تهدف إلى إقناع إيران بأن ترى في وقف إطلاق النار في غزة بديلاً مناسباً للثأر بشكل عام، أو على الأقل رد لن يجر المنطقة إلى الحرب.
حتى الآن من السابق لأوانه القول إذا كانت هذه الجهود قد أثمرت، لكن يجدر الانتباه إلى الأصوات العلنية التي تسمع في إيران نفسها. في الأيام الأخيرة، نشرت صياغات مختلفة حول الخلافات السائدة في القيادة العليا بخصوص طبيعة الرد وتوقيته. على سبيل المثال، نشر موقع “إيران إنترناشيونال” نبأ يقول بأن الرئيس الجديد، مسعود بزشكيان، توسل للزعيم الروحي علي خامنئي كي لا يشن هجوماً يمس بالدولة واقتصادها وقدرته على إدارة الحكومة الجديدة. في موازاة ذلك، أفاد بوجود خلاف كبير بين الرئيس وحرس الثورة حول هذه المسألة، وهو النبأ الذي سرعان ما نفاه موقع “تسنيم”، المقرب من حرس الثورة الإيراني.
تصعب معرفة مستوى الحقيقة في هذه التقارير. ولكنها خلافات متوقعة، حيث رافقت حكومات سابقة في إيران مثلها. بزشكيان محسوب على التيار الإصلاحي، وعين مستشاراً للشؤون الاستراتيجية، محمد جواد ظريف، وهو الشخص الذي كان وزير الخارجية في فترة الرئيس حسن روحاني، الذي وقع على الاتفاق النووي وحاول تحسين اقتصاد إيران بدون تحقيق نجاح كبير. ظريف مثل خرقة حمراء أمام حرس الثورة. ففي شباط 2021 تم تسريب مقابلة لم تكن للنشر، مع معهد أبحاث في إيران، هاجم فيها تدخل حرس الثورة، وبشكل مباشر قاسم سليماني قائد “قوة القدس” الذي صُفّي بالقصف الأمريكي في كانون الثاني 2020، الذي حسب أقوال ظريف، استخدم الضغط الكبير لإفشال جهود التوصل إلى الاتفاق النووي.
ظريف الذي كان مدير حملة بزشكيان في الانتخابات الأخيرة، لن يكون وزيراً في الحكومة الجديدة، التي عرض الرئيس أسماء الـ 19 وزيرا فيها أمس أمام البرلمان، بعد مشاورات مطولة مع خامنئي. من الواضع لظريف، مثلما لبزشكيان، بأنه لا فائدة من شمل اسمه في قائمة سيرفضها البرلمان. ولكن كمستشار استراتيجي، فلا يحتاج إلى مصادقة البرلمان. وبقوة هذا المنصب، سيكون الشخص الذي سيرسم الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي قد تضر بعدد غير قليل من المناطق الحساسة، سواء لحرس الثورة أو للمحافظين، وبالأساس المحسوبين على التيار الأصولي.
إن تعيين ظريف وتشكيلة الحكومة الجديدة سيطر أمس على جدول أعمال وسائل الإعلام في إيران، حتى أكثر من قضية رد إيران المتوقع على إسرائيل. بشكل عام، مع مرور الوقت منذ تصفية إسماعيل هنية، يبدو أن وسائل الإعلام في إيران، بما في ذلك التي يسيطر عليها النظام وحرس الثورة، خفضت حجم التغطية وقوة التصريحات مقابل الردود التي نشرت على الفور بعد عملية الاغتيال.
“الالتزام” بالثأر الشديد والعقاب الرادع الذي سيجبي من إسرائيل ثمن التصفية ما زال قائماً. ولكن يتم إلى جانبه عرض “التصرف بحكمة” و”التخطيط بشكل جيد” و”عدم التسرع”. على سبيل المثال، في موقع “اطلاعات” الإصلاحي، اقترح المحلل سيد مسعود رجوي، تبني مبدأ “الصبر”. “لا شك أنه لا يمكن بشكل عاطفي وبشعارات وطرق دارجة، القتال ضد الصهيونية الموحدة في إسرائيل. ولمحاربة البنية “التنظيمية” التي تملك معرفة وقدرة تحليل وتكنولوجيا، ونسيت الرحمة، فمن الحيوي التزود بمعلومات كافية وتطبيق خطة مفصلة ضدها”، كتب. “يجب التصرف بصبر وليس بتسرع، وفقاً للمصالح الوطنية”.
جوهر هذه المصالح عرضه كاتب آخر هو الدكتور بهرام أمير أحمد يان، الذي شرح بأنه “من أجل التفاخر وزيادة القوة الاقتصادية والسلطة الوطنية للدولة، يجب اتخاذ قرارات جدية… لقد حان الوقت للتصالح مع البيئة الدولية لجذب الاستثمارات الأجنبية. وحكومة الطبيب (بزشكيان هو جراح قلب وشغل منصب وزير الصحة في حكومة الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي في الأعوام 2001 – 2005) تمهد الطريق لملاءمة البلاد مع هذه البيئة”. أحمد يان يقدم أيضاً خطة مفصلة عن كيفية التعامل مع هذه التحديات.
في فترة ولاية الرئيس إبراهيم رئيسي، الذي قتل في حادثة المروحية في أيار، لم يكن للمراسلين وتوصيات المهنيين والخبراء والمحللين الإصلاحيين وزن كبير، هذا إذا كان أصلاً، لكن بزشكيان يأتي بأجندة مختلفة، سيكون لصوت الإصلاحيين فيها أذن مصغية. بزشكيان الذي هو ليس اقتصادياً وليس له خلفية في الاقتصاد، وضع ترميم الاقتصاد على رأس سلم أولوياته، وعين رجل الاقتصاد الكبير في الدولة، علي طيب، الذي كان وزير الاقتصاد في ولاية روحاني، والمؤيد المتحمس للاتفاق النووي، في منصب رئيس منظمة الموازنة والتطوير، وهي الهيئة العليا لتخطيط الاقتصاد، الذي سيكون فعلياً المسؤول عن الخطط الاقتصادية للحكومة.
من التحديات التي سيواجهها تضخم 50 في المئة، والعملة التي فقدت قيمتها بـ 20 في المئة من بداية السنة، ونسبة بطالة مرتفعة، وفساد هيكلي عميق، منظومة مصرفية مدمرة، وهرب رؤوس الأموال، وليس هذا سوى جزء منها. دولة نفط كبيرة غير قادرة على توفير كل احتياجات الغاز لمواطنيها، والمليون سيارة جديدة (السيئة) التي تنتجها لا وقود لها. إيران تنتج 97 مليون لتر من البنزين يومياً مقابل استهلاك يبلغ 115 مليون لتر. هذه فجوة تغطيها بإضافات كيماوية تلوث الهواء.
إيران تصدر 1.5 مليون برميل نفط يومياً، تقريباً 90 في المئة منها للصين، لكن تطوير آبار نفط جديدة تدفع بها قدماً لإنتاج حوالي 2.5 مليون برميل يومياً، يواجه صعوبة كبيرة. أحد الحلول هو تقليص دعم الوقود بشكل كبير. وقد كان أعضاء في البرلمان مؤخراً طرحوا رفع سعر الوقود بـ 25 ضعفاً، وحتى تقليص دعم الطحين، لأن جزءاً كبيراً من الحبوب الذي تنتجه إيران تضطر لاستيراده لأن المزارعين يمتنعون عن بيع محاصيلهم للحكومة بالسعر المنخفض الذي تعرضه عليهم.
بزشكيان الذي اعتبر ترميم العلاقات مع دول العالم ومع الجيران العرب ومع الولايات المتحدة هدفا استراتيجياً للدولة، يريد تعيين عباس عراكتشي في منصب وزير الخارجية، الذي كان نائب ظريف وترأس بعثة المفاوضات للاتفاق النووي ودفع قدماً بجهود صياغة الاتفاق النووي الجديد في فترة ولاية الرئيس جو بايدن. للوزير القادم علاقات جيدة مع نظرائه في أوروبا والسعودية ومتخذي القرارات في واشنطن. وإذا صادق البرلمان على تعيينه، أي إذا حصل على مباركة الزعيم الروحي علي خامنئي، فربما يكون (مع ظريف) مهندس سياسة إيران الخارجية الجديدة، شريطة أن ينجح في شق الطريق بين حرس الثورة الإيراني والخصوم المحافظين. ولكن مطلوب ملاحظة تحذير مهمة. فوعود وآمال مشابهة سمعت أيضاً من فم الرئيس روحاني الذي لم ينجح في التغلب على هذه العقبات وخيب أمل مؤيديه الإصلاحيين.
تحديات الاقتصاد والسياسة الخارجية لا تخفى عن عيون خامنئي. وعندما يتحدث المتحدثون بلسان النظام عن ضرورة الانتقام من إسرائيل، لكن دون المس بمصالح الدولة، فإنهم يدركون الثمن الاقتصادي الباهظ الذي ستدفعه إيران مقابل هذا الانتقام، بل ويدركون أيضاً الضرر الكبير المتوقع لمكانتها الإقليمية والدولية، بالذات بعد نجاحها في مراكمة منظومة علاقات ثابتة مع دول رئيسية في المنطقة مثل الإمارات والسعودية. ولا يقل عن ذلك أهمية تأثير الحرب مع إسرائيل على رد الشعب الإيراني، الذي انتخب بزشكيان على أمل ترميم اقتصاد الدولة، والذي وعد برفع العقوبات الدولية المفروضة عليها.
لا نعرف كيف سيحسم خامنئي الأمر، وهو الزعيم الذي من جهة صك مفهوم “اقتصاد المقاومة” الذي أمر بواسطته بتوجيه الدولة ضد العقوبات كرمز لقوة إيران في الحرب ضد “استبداد الغرب”. وفي المقابل، تحدث عن “مرونة بطولية” كأسلوب صحيح لخدمة مصالح الدولة. ولكن عندما تتحدث إيران عن رد “لن يسيء لوقف إطلاق النار المحتمل في قطاع غزة”، فربما تضع السلم الذي يسمح لها على الأقل بالحد من الرد بشكل “مرن”.
المصدر: هآرتس /القدس العربي