معقل زهور عدي
قبل الدخول في أي نقاش حول نقد التراث أو نقضه لابد من مقاربة لمعنى التراث كيلا نكون كمن يحوم حول موضوع غير محدد فيضيع في فضائه ويخلق من الإشكالات أكثر مما يساهم في حل الإشكال الذي يطرحه الواقع الثقافي.
وضمن هذا السياق يمكن القول إن التراث هو مجمل الثقافة العربية – الإسلامية التي ورثناها عن الأجداد بفروعها المختلفة، وهي نتاج الحضارة العربية الإسلامية، هذه الحضارة التي كانت الحلقة السابقة للحضارة الأوربية والتي مهدت لها على صعيد الفكر ” الابن رشدية ” وعلى صعيد إدخال مفهوم العلم التجريبي ليس بصورة منفصلة عن الفكر الفلسفي ولكن كبناء مكمل لذلك الفكر.
وفي هذا السياق لا يمكن فصل الإسلام بمكوناته ” العقيدة , الكتاب , السنة , الفقه , علم الكلام , الفرق الإسلامية , التصوف ” عن التراث كما لايمكن فصل ذلك كله عن ” اللغة والفنون والآداب والعلوم التجريبية “
هكذا فوحده المفهوم الذي يظلل كل تلك الخيمة الواسعة يمكن أن يستهلك معنى التراث وفق تلك المقاربة .
مع ذلك فحين نضع مفهوم التراث على الطاولة من وجهة نظر الحداثة وما أنتجه الفكر الإنساني من خلال الحضارة الأوربية – العالمية نرى أن مفهوم التراث القابل لمواجهته بالنقد يتقلص إلى الإسلام كثقافة تشمل المفاهيم الدينية التي وصلت إلينا , والتاريخ العربي الاسلامي , والفكرالذي أنتجته تلك الحضارة العظيمة بكل مافيه من إنجازات وقصور .
لكن ماهو الأساس الذي ننطلق منه في التعامل مع ” التراث ” ؟
في الإجابة عن السؤال السابق نرى أن هناك فريقين ضمن النخب العربية يمكن تمييزهما بوضوح:
فبينما ينطلق الفريق الأول من القطع التام مع هذا التراث واعتباره عائقا بوجه تحرر العقل، والالتحاق بركب الحضارة الأوربية التي أصبحت حضارة عالمية الطابع كما يقول الشاعر أدونيس.
وهذا يعني إعادة بناء الفكر العربي ” السوري كما أصبح يجادل البعض! ” من الأسس التي بني عليها الفكر الغربي أي من الفلسفة اليونانية المجددة لاتينيا وفكرالإصلاح الديني ثم التنوير وصولا إلى فلاسفة ومفكري الثورة الفرنسية والفلسفة الألمانية التي تشكل جوهر الفكر الحديث (كانط وهيجل وماركس ونيتشه وهايدجر )
بالتالي فكل جهد يبذل في سبيل الإصلاح أو التجديد للفكر الإسلامي هو جهد غير مبرر , إنه يشبه عمل من يريد إصلاح منزل آيل للسقوط بفعل اهتراء أساساته وأعمدته وليس نوافذه وأصبغته وأثاثه .
لكن المشكلة أن من يعتقد مثل ذلك الإعتقاد لايمتلك في كثير من الأحيان من الجرأة والشجاعة مايكفي لوضع رأيه عاريا أمام الآخرين , وبدلا عن ذلك فهو يتسلل إلى ميادين النقاش مرتديا رداء الإصلاح في حين أنه لايؤمن بالإصلاح في كثير أو قليل . لذا فهو بينما يحمل بيد ظاهرة راية نقد التراث فإنما يحمل بيد أخرى مخفية معول هدم كل مايتعلق بالتراث .
مثل ذلك الموقف يدخل ذلك التيار الفكري في تناقضات لها أول وليس لها آخر , فهو يضطر للكذب مرارا , وهو يناقض نفسه في النوسان بين النقد والنقض وهما شيئان مختلفان بصورة تامة كما سيأتي لاحقا .
أما التيار الآخر فهو ذلك الذي لايؤمن بالقطع مع التراث لسبب بسيط , فتراث أي أمة أو شعب هو جزء من ماهية تلك الأمة أو ذلك الشعب , والقطع معه يشبه من يقرر قطع يده أو رجله , ” يدك منك وإن كانت شلاء ” بالتالي فعدم القطع مع التراث ليس موقفا أخلاقيا فحسب , لكنه أيضا موقف عقلاني ومنطقي بقدر ما أنه ” ليس بالخبز وحده يحيى الانسان ” فروح الأمة أو الشعب كامنة في تراثها , والقطع مع التراث يعني أمة بلاروح , أي مجرد مجموع بشري ملحق بحضارة وثقافة أخرى غريبة عنه وربما لديها من حضارته وأمته موقف ثقافي – تاريخي غير ودي . ونحن نرى بوضوح أن التيار الذي توصل إلى القناعة بالقطع مع التراث
يتدحرج ليصبح مجرد تابع ليس فقط في حقل الثقافة والفكر وإنما في حقل السياسة أيضا.
لكن ما هو بالضبط مضمون ما يحمله التيار الآخر؟
ببساطة أيضا هو النظر للتراث باحترام وليس بتقديس، فاحترام التراث هو جزء من احترام الذات، لكن الاحترام لا يعني أن يوضع التراث فوق النقد , كل ما هنالك هو أن يتم الكشف عن الجوانب التي تعرقل التقدم نحو المستقبل , وفي ميدان الفكر الكشف عن الجوانب غير العقلانية والتي تتعارض مع حقائق العصر ونقدها .
أيضا مراجعة التاريخ العربي الإسلامي والنظر إليه بموضوعية، ومن خلال العصر الذي تتم فيه دراسة كل مرحلة من ذلك التاريخ وليس من خلال قيم العصر الحديث التي لم تتوصل إليها البشرية سوى قبل مئة سنة أو أقل من ذلك، فيالها من سذاجة أن تتم محاكمة الفتوحات العربية الاسلامية وفقا لما توصلت إليه عصبة الأمم المتحدة في ميثاقها عام 1919 من احترام حدود الدول القومية !
وفيما يتعلق بالمفاهيم الدينية الإسلامية السائدة فقد بدأ نقد الكثير منها منذ عصر النهضة ” رفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده وعلي عبد الرازق ….” ومصلحون كثيرون ومن المطلوب والمنطقي اعادة وصل ما انقطع من ذلك النهج والوقوف ضد أفكار التعصب والجمود وتلك التي تهدف بالعودة بالمجتمع نحو الوراء .
لقد فتح الشيخ والفيلسوف أبو الوليد ابن رشد الأندلسي الباب واسعا أمام توافق ممكن بين الفلسفة والعقلانية التي تحملها معها وبين الدين والإيمان ” اقرأ كتابه: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال “
بالتالي فليس من ضرورة في وضع الإسلام والعقلانية على طرفي نقيض، بدلا من إظهار الجوانب غير العقلانية في المفاهيم الدينية التي وصلتنا من عصور شهدت جمود وتدهور الفكر العربي الإسلامي عبر مئات السنين.
شتان بين من ينقد بقصد الاحتفاظ بكل ما هو ثمين وقابل للحياة في التراث ونقد ماهو ميت وغير عقلاني ولا يتفق مع روح العصر، وبين من يعتقد بالقطع مع التراث ورميه في البحر ويبحث عن هوية جديدة بالتحاقه بأمم أخرى تعتز بهويتها وتراثها كل الاعتزاز.