مالك ونوس
في مقابل ممارسة أخلاقية لافتة برزت، وتحدّث عنها أسرى إسرائيليون “محرّرون” تمثّلت في حماية عناصر المقاومة الفلسطينية إيّاهم من القصف بأجسادهم، لن تبرح الذاكرة ممارسةٌ فيها من انعدام الأخلاق كثير تمثّلت في حوادث سرقة جيش الاحتلال جثامين ضحاياه من الشهداء الفلسطينيين، بعد نبشها من القبور، وانتشالها واصطحابها إلى جهة مجهولة. وتُحيل واقعة السرقة الإسرائيلية إلى تاريخٍ من جرائم الاستعمار الغربي، ومنها تلك التي امتدّت في مدى قرنَين من الاستعمار الفرنسي، الذي لم يشفِ غليله قتلُه مقاومي استعماره في مشارق الأرض ومغاربها، بل كان يقطع رؤوسهم ويسرقها لتُعرض في قصور الحكام والأباطرة وقادة الجيوش لكي يتباهوا بها. أمّا حصيلة هذا الفعل الشائن وغير الإنساني فكانت أن تجَّمع في النهاية لدى الفرنسيين أكثر من 18 ألف جمجمة وُضِعت في مكان، أراد الفرنسيون أن يجمِّلوا عبره جرائمهم عابرةَ القارّات، فأطلقوا عليه تسمية “متحف الإنسان”.
وبرز قبل أيّام حرص المقاومة على حياة الأسرى لديها، بعد اكتشاف جثث الأسرى الستّة الذين عثرت قوات الاحتلال الإسرائيلي عليها في نفقٍ قرب رفح، بعدما أعلنت حركة حماس في وقت سابق انقطاع الاتصال مع حُماتِهم من عناصر المقاومة. وللمفارقة، فإنّ الأسرى (بينهم أميركي) قُتلوا بقصفٍ إسرائيليٍّ طاول مكان احتجازهم، ففضلت المقاومة الحديث عن فقدان الاتصال بحُماتِهم، بدلاً من التعتيم على مكانهم أو المقايضة بهم أو اللعب بمشاعر ذويهم. وكالعادة، كانت جثث الإسرائيليين في حالة جيّدة، لم تُقطع رؤوسها، ولم تُسرق أعضاؤها، ولم تُسلخ جلودها أوتُشوَّه وجوهها، كما فعل الجيش الإسرائيلي بجثامين 150 من الشهداء الفلسطينيين التي سرقها في ديسمبر/ كانون الأول الماضي من مقبرة حيّ التفاح شرق غزّة، بعد نبش أكثر من 1100 قبر. وكما فعل حين أعاد 80 جثّةٍ سرقها من شمال غزّة، ثمّ سلّمها إلى الصليب الأحمر في غزّة وهي مشوّهة.
تم وضع كلمة “مجرم” تحت جمجمة الشهيد السوري سليمان الحلبي، الذي اغتال الجنرال الفرنسي كليبر (خَلَف نابليون في حكم مصر)، فهل يندرج ذلك تحت بند الدراسة؟
وفي سياق هذه الحوادث الشائنة التي اقترفها جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي يدّعي أنّه الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، توالت الحوادث المشابهة التي برز منها اكتشاف مقبرةٍ جماعيةٍ في مستشفى ناصر في خانيونس، ضمّت مئات الضحايا الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية، وعُثر فيها على جثث مقطوعة الرؤوس، وأخرى من دون جلود، أو سُرِقت أعضاؤها من أجل الاتّجار بها حول العالم. ثمّ كان ما فعلته قوات الاحتلال من سرقة مئات الجثامين الأخرى بعد نبش المقابر واستخراجها، من دون مراعاة حرمة الموت، ونقلتها إلى جهةٍ مجهولةٍ، من أجل مطابقة حمضها النووي للتأكّد من أنّها لا تعود إلى أيّ من الأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس، وغيرها من الفصائل المقاومة. ولا عجب في هذا، حين نعرف أنّ دولة الاحتلال تُعَدُّ من أكبر أسواق الاتّجار بأعضاء البشر، وأنّ لديها بنكاً للجلود الآدمية شيّد سنة 1986، بهدف تخزين الجلود البشرية، قد تكون لفلسطينيين تقتلهم، لإعادة الاستفادة منها في معالجة الحروق وسرطان الجلد لدى الإسرائيليين، وربّما غيرهم. ويتباهى الإسرائيليون بهذا البنك بوصفه الأكبر في العالم، من دون خشية من أن يثير ذلك التساؤل عن مصدر تلك الجلود أو كيفية الحصول عليها، وهو ما يُذكِّر بـ”متحف الإنسان” في فرنسا، الذي تأسّس وفق طريقة السطو وسرقة الأعضاء البشرية ذاتها، والتي تأنف منها الوحوش. وبينما يقول القائمون على هذا المتحف إنّ الغرضَ منه بحثيٌّ وعلميٌّ صرفٌ، تُعرَض فيه جماجم من أجل التشفّي من أصحابها ومن أجل الاستحقار وإيصال رسالةٍ إلى كلّ من يهمه الأمر، أنّ هذا مصير كلّ من يعارض استعمارنا واحتلالنا أرضه، وليس غرضه الدراسة كما يقولون. فهل يندرج وضع كلمة “مجرم” تحت جمجمة الشهيد السوري سليمان الحلبي، الذي اغتال الجنرال الفرنسي كليبر (خَلَف نابليون في حكم مصر)، هل يندرج ذلك تحت بند الدراسة؟
ليس سلخ الإنسانية عن مجموعات بشرية حكراً على الإسرائيليين الذين سلخوها عن الفلسطينيين فحسب، بل هم يفعلون كما فعل الاستعمار الفرنسي حين سلخ الإنسانية عن غير الفرنسيين والغربيين. إذ حاول منظّروه عبر تاريخ استعمارهم الجزائر، على سبيل المثال، ترسيخ فكرة أنّه لم تكن هنالك أمّة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، مستنتجين بذلك أنّه يحقّ لليهود واليونانيين والإيطاليين والبربر السيطرة على هذه البلاد وقيادتها، نافين بذلك وجود أيّ عنصر عربي فيها، بل اعتبروا اللغة العربية لغةً أجنبيةً. وتكرّر الأمر مع الإسرائيليين الذين ينفون وجود شيء اسمُه فلسطين، كما ينفون وجود الشعب الفلسطيني. قالوا ذلك قبل احتلالهم البلاد، حين أسّست الحركة الصهيونية مشروعهم الاستعماري الإحلالي، ويكرّرونه هذه الأيام، عندما يسلخون الإنسانية عن الشعب الفلسطيني في غزّة من أجل استهدافه والقضاء عليه، بالتزامن مع تكرار قادتهم هذه الأيام سرديتهم إيّاها التي تقول بعدم وجود شيء اسمه فلسطين قبل الاحتلال الإسرائيلي.
ليس سلخ الإنسانية عن مجموعات بشرية حكراً على الإسرائيليين، فهم يفعلون ما فعله الاستعمار الفرنسي حين سلخ الإنسانية عن غير الفرنسيين
وفي سياق مشابه، أورد إدوارد سعيد في كتابه “الثقافة والإمبريالية” (دار الآداب، بيروت، 2014) فقرةً من كتابٍ بالإنكليزية بعنوان: “مهمّة إنكلترا: فكرة الإمبريالية في عصر غلادستون وديزرائيلي، 1868 – 1880″، تتحدّث عن نظرة إنكلترا إلى العالم انطلاقاً من أنّها “أعظم بلد في كون الله الشاسع كلّه”، كما جاء في الكتاب، وطموحها للسيطرة عليه وعلى مفاصل الحياة فيه كلّها وتوجيهها. وحين يستتبّ الأمر لهم في السيطرة على العالم، يكمل الكاتب في الفقرة المذكورة: “بعدها ستكون لنا نعمةُ الاستيلاء برخاء وسلاسة على الجزر والقارّات القصيّة من الكرة الأرضية. سنقوم بإدارة العالم سواء أَراقَ ذلك للعالم أم لم يَرُقْ. ليس في وسع العالم أن يمنع ذلك (وليس في وسعنا نحن أيضاً)، فيما أخمِّن”. تكرّرت تلك الفكرة على لسان الإسرائيليين بعد شنّهم حرب الإبادة الجارية على غزّة قبل 11 شهراً، قالوا إنّهم سيهجِّرون الفلسطينيين من قطاع غزّة والضفّة الغربية إلى مصر والأردن، وليس في وسع قادتها أن يرفضوا ذلك. إنّه التفكير الإمبريالي ذاته، إنّه جنس المستعمرين ذاته، لم تتغيّر نظرته إلى الشعوب الأخرى، منذ بدء عصر الغزاوت الغربي وحتّى لحظة تقاطر قادة الغرب وتدافعهم للوصول إلى تلّ أبيب، بعد عملية طوفان الأقصى، لكي يُقرّوا بحقّ مُستعمِرتهم “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها، ويمنحوها رخصةَ إبادة الشعوب الأخرى.
وأخيراً، يَحسُن في إطار صراع السرديات، وفي إطار تفكيك المشروع الصهيوني، عبر إعادة البحث فيه والإضاءة عليه من جديد، أن تجرى المقارنات بين ما ترتكبه قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزّة والضفّة الغربية من حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي، وبين ما ارتكبه الاستعمار القديم، الفرنسي والأوروبي عموماً، من انتهاكات ومجازر وحروب إبادة، شجبها فيما بعد العالم وقواه الحيّة، وندّد بها كثيراً، غير أنّه نسيها أو تناساها مع مرور الوقت، مُكرِّساً المجرمين الذين قاموا بها صانعي تاريخ. مقارناتٌ وبحوثٌ تستهدف الجيل الشاب الذي ربّما غيَّبت مناهج الدراسة في بلده أو برامج الإعلام السائد وحملاته المنسقة عنه أخبار الفظائع التي ارتكبها أجداده المُستعمرون بحقّ الشعوب الأخرى. ويَحسُن أيضاً الطرقُ بقوةٍ على الجدران التي تمنعه من رؤية الحقيقة، إذ ثمّة تاريخ طويل من الغزو الغربي الذي سيخجل هذا الجيل ويشعر بالخزي إنْ تعرَّف عليه وعرف أنّه جرى باسم أبيه وأمّه أو أجداده. وهو غزو مستمرّ لم يتوقّف يوماً إلّا ليأخذ أشكالاً جديدة، إضافة إلى الشكل الدموي القديم الذي لا يزال يأخذه في غزّة والضفّة الغربية، كما في غيرهما من بقاع كثيرة متألّمة.
المصدر: العربي الجديد