أسامة أبو ارشيد
من عاد يُصدّق إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ويثق بتصريحاتها عن إمكانية التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزّة ولتبادل الأسرى؟… ربّما الطرف الوحيد الذي يتظاهر بالاقتناع بمنسوب التفاؤل الذي تبثّه الإدارة الأميركية من حين إلى آخر في هذا الملفّ هو الإدارة نفسها.
لا الإسرائيليون يأخذون تصريحاتِ كبار المسؤولين الأميركيين، بدءاً من الرئيس نفسه مروراً بوزير الخارجية ومستشار الأمن القومي، وليس انتهاء بالناطق باسم مجلس الأمن القومي، على محمل الجدّ، ولا الفلسطينيون عادوا يراهنون على موقف أميركي صارم يُذكّر رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، بمن هي الدولة العظمى هنا ومن هي الدولة التابعة. إذا أثبتت الأشهر الأحد عشر الماضية شيئاً فأنّ التأثير الإسرائيلي في واشنطن أكبر بكثير من التأثير الأميركي في تل أبيب، وأنّه رغم أنّ إسرائيل عاجزةٌ عن خوض معارك وحسمها من دون الدعم الأميركي المطلق، كما اتّضح ذلك جليّاً منذ 7 أكتوبر (2023)، إلّا أنّها لا تتورّع عن التعامل مع الراعي الأميركي وكأنها من يمنُّ عليه لا العكس. ويحقّ لنتنياهو أن يتباهى أنّه القائد الأجنبي الوحيد الذي يمكن له أنّ يذلّ رئيس الولايات المتّحدة ويضع إصبعه في عينه، من دون أن يخشى انتقاماً أو عقاباً، وهو قد فعل، ويكفي أن تتابع حال بايدن وتصريحاته المُبتذَلة والمُستجدِية لنتنياهو.
في كلّ مكاسرة بالعينين بين بايدن ونتنياهو، رمش بايدن أولاً. هذا لا يعني أنّه رجلٌ عاقلٌ وطيّب القلب، بل هو شريك كامل في جريمة الإبادة في غزّة
كثيراً ما يجد “محلّلو الفضائيات” من الولايات المتّحدة أنفسهم أمام السؤال الذي طالما يتكرّر عندما “يسترجل” الرئيس بايدن أو وزير خارجيته أنتوني بلينكن، ويستخدمان خطاباً ناقداً لنتنياهو، ضمنياً أو مباشراً، ويطالبانه بإبداء مرونةٍ في المفاوضات، أو أنّه قد تكون هناك تداعيات للعناد والتحدّي. يقول السؤال، الذي يأتي في صيغ عدة، مثل: هل ثمَّة جديد في النبرة الأميركية هذه المرّة؟ هل ستغيّر إدارة بايدن مقاربتها إذا لم يتجاوب نتنياهو مع مطالبها، وترتّب ثمناً عليه إذا تحدّى مطالبها؟ هل تفعلها واشنطن المرّة هذه وترهن بعض المساعدات العسكرية المُقدّمة لتل أبيب بطبيعة استجابتها لشروطها؟… طبعاً، تختلف الإجابة من شخص إلى آخر، ومن سياق إلى سياق.
في أواخر مايو/ أيّار الماضي، خرج بايدن في خطاب أعلن فيه خطّةً من ثلاث مراحلَ لوقف إطلاق النار في قطاع غزّة، ولإنجاز صفقة تبادل للأسرى. قال بايدن فيه إنّ المُقترَح الذي يُقدّمه إسرائيلي وافق عليه نتنياهو. لم تمضِ ساعاتٌ حتّى كان مكتب نتنياهو يُصدر بياناً يُشكّك في بعض بنود المُقترَح كما طرحها بايدن. تظاهرت واشنطن بأنّ نتنياهو يفعل ذلك لأسباب سياسية لامتصاص غضب شركائه الأكثر تطرفاً في ائتلافه الحكومي، وحملت المُقترَح، خلال أسبوعين، إلى مجلس الأمن الذي باركه وصوّت بالموافقة عليه. حينها قال مُحلّلون سياسيون كثيرون إنّ الوضع مختلف المرّة هذه، فالرئيس وضع وزنه الرئاسي الثقيل وراء المُقترَح، وإنّ مصداقيته الشخصية في المحكّ، ليصدم كثيرون أنّ كفّة نتنياهو ترجح على كفّة بايدن في الميزان.
لنتنياهو سوابقُ في إهانة بايدن الذي له سجلٌّ حافلٌ بابتلاع تلك الإهانات
لم يكن ما جرى مفاجئاً كلّيةً، فلنتنياهو سوابقُ في إهانة بايدن، وللأخير سجلٌّ حافلٌ بابتلاع تلك الإهانات. من يا تُرى نسي الوعيد الذي أطلقه الرئيس الأميركي مطلع مايو/ أيار الماضي بوقف تزويد إسرائيل بالقنابل الثقيلة، وببعض أنواع الأسلحة الأكثر فتكاً، إذا تجاوز نتنياهو “الخطّ الأحمر” واستهدف مناطقَ كثيفةَ السكّان في قطاع غزّة؟ لم تمضِ أسابيعُ حتّى كانت قوّات الاحتلال تهاجم مدينة رفح في القطاع، ضاربةً بالتحذيرات الأميركية عُرْضَ الحائط. كما كان متوقّعاً، ابتلع بايدن الإهانة، ولم تمضِ أشهرٌ قليلةٌ حتّى كانت إدارته تُعلِن صفقات تسليح جديدة لإسرائيل بمليارات الدولارات. أيضاً، من نسي “محدّدات” بلينكن، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، التي كان منها أنّ واشنطن لا تقبل احتلالاً إسرائيلياً لقطاع غزّة أو تغييراً لمساحته الجغرافية؟… حين كان بلينكن يعلن مُحدّدات إدارته تلك، كانت إسرائيل تجرف مناطقَ واسعةً شمال القطاع بغية إقامة منطقة عازلة تقتطع عشرات الكيلومترات من مساحة القطاع الصغيرة أصلاً.
الأمثلة في هذا السياق كثيرة ويصعب حصرها، لكنّها تعبّر عن نمط ومسلك واضحين: في أغلب الصدامات الأميركية الإسرائيلية، في مدى العام الماضي، انكسرت قرون الوعل الأميركي أمام صخرة العناد الإسرائيلي. وفي كلّ مكاسرة بالعينين بين بايدن ونتنياهو، رمش بايدن أولاً. هذا لا يعني أنّه رجلٌ عاقلٌ وطيّب القلب، بل هو شريك كامل في جريمة الإبادة في غزّة، غير أنّ لديه حسابات انتخابية، شخصية، قبل انسحابه من السباق الرئاسي في يوليو/ تمّوز الماضي، أو لمصلحة خليفته، نائبته كامالا هاريس. كما أنّ لديه حسابات متعلّقة بإرثه الرئاسي، وكذلك بأولويات الولايات المتّحدة الجيوسياسية، إقليمياً ودولياً. وفي الوقت نفسه، يثبت نتنياهو مرّة بعد أخرى أنّه يعرف كيف يتلاعب ببايدن وإدارته، وبواشنطن وبالولايات المتّحدة بأسرها. ومن ثمَّ يغدو حديث إدارة بايدن عن “اتّفاق الفرصة الأخيرة” هذه الأيام مُجرَّد شعار آخر أقرب إلى الخواء. قد يتردّد بعض المُحلّلين السياسيين في الجزم بذلك، لأنّ الرئيس يضع مصداقيته في المحكّ مُجدّداً، غير أنّ التجارب المريرة علّمتنا ألّا نراهن على “مصداقية” بايدن واحترامه نفسه والقوّة الأعظم التي يرأسها. لقد مرّغ نتنياهو كرامة بايدن في الوحل، وهو كان على بُعد عام من الانتخابات الرئاسية، فما الذي يدعونا لأن نعتقد أنّه (نتنياهو) سيستجيب له الآن، ولم يبقَ غير شهرين للانتخابات الرئاسية، وأربعة أشهر ونصف الشهر على انتهاء ولاية بايدن؟
المصدر: العربي الجديد