أحمد جاسم الحسين
باتت وسائل التواصل الاجتماعي هي الوطن المؤقت للسوريين، يغيرون جغرافيات وجودهم، ومواقفهم، وقناعاتهم، غير أنهم غالباً لا يتخلون عن نشاطهم التواصلي. قد تضيق بهم الأوطان القديمة والجديدة وكذلك بدائل الأوطان، غير أن فضاء التواصل الاجتماعي هو الوحيد الذي يمكن أن يحتمل نزعاتهم وصداماتهم وتخويناتهم وحروبهم الصغيرة والكبيرة.
يصنع السوريون المعارضون أو المنفيون خارج أوطانهم، ترندات متتالية تكاد تكون أسبوعية، ويمكنهم أن يختلفوا حول أي شيء وكل شيء، يهبون هبات أقرب ما تكون إلى هبات الشاعر العربي الجاهلي الفارس دريد بن الصمة:
ومَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ.. غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
تستيقظ صباحاً، وأنت ابن هذا الزمان: زمان ما قبل القهوة وفيروزيات الصباح، وقبل أن تفرك عيونك من غبش النوم أو تغسل وجهك، أو تردد دعاء “الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور” فإنك ستفتح شاشة موبايلك مستفقداً الذي حدث في العالم، أو من تواصل معك، أو ماذا حدث!
انتظار هذا الحوار المعقم بين السوريين، قد يشبه انتظار غودو، لكن كما تقول العرب “ما لا يدرك كله لا يترك جله”، أي أننا يمكن أن نقسم إنجاز الأمنيات إلى مراحل وخطوات، لكن في الوقت ذاته يمكننا أن نكون حذرين من اختلاف طبيعة خطاب وسائل التواصل الاجتماعي عن الخطاب الواقعي.
يمكن للسوريين اليوم أن يفعلوا أي فكرة مهما كانت بسيطة ليجعلوا منها ترنداً، ولا يحاولنَّ شخص أن يقول: لو لم نكن في زمان الشابكة العنكبوتية، فما عرف أحد بهذا الموضوه أو ذاك أو هذا الاختلاف أو ذاك. الأزمنة باكيت واحد، لا يمكنك أن تختار أن تتواصل أو تقر بما تريده منها، ولكل زمان أدواته وأفكاره وطرائقه، ومفاهيمه.
ومثلما يستطيع المجتمع السوري “السوشيالميدي” أن يصنع ترنداً من حالة خلاف بسيطة أو موضوع أو خطأ يمكن أن يحل بأقل جهد ممكن، فإن هذا المجتمع لديه القدرة على تمييع الشأن العام بطريقة غريبة ومحترفة وبحجج كثيرة، لتحضرَ بدلاً من المحاسبة والاعتراف أو الاعتذار أو التوضيح وإصدار البيانات واحترام الجمهور.
ثقافة “تبويس الشوارب” المستمدة من ثقافة الحارة، والعائلة الواحدة حين كانت تحل قضاياها البسيطة بفكرة التسامح والمغفرة والنسيان.
يمكننا أن نستذكر عدداً من تلك الترندات التي سيطرت على المشهد السوري في الأسابيع الأخيرة هي:
-هل ما قام به السوريون منذ عام 2011 ثورة أم حرب أهلية؟
-مؤتمر المؤثرين ودور المنظمات التطوعية في الشمال السوري.
-من المسؤول عما حدث في مدرسة الصحافة بقسمها العربي بعد تسجيل أشخاص معهم بكالوريا في الماجستير مباشرة ونشر تحقيق مفصل عنها؟
-ما موقف المشاركين في حراك السويداء من جرائم الشرف وهل مطلوب منه أن يدخل بمواجهة مباشرة مع المفاهيم الاجتماعية الراسخة؟
-ما الذي يحدث بين الحكومة المؤقتة والفصائل المتحكمة بالأرض في الشمال السوري؟
جميلٌ؛ من حيث المبدأ أن تثار كل الأفكار الموجعة السورية، وأن تخضع للنقاش، وأن نتخفف من المسلمات والبديهيات والثقافة المسبقة كهدف كبير من أهداف الثورة السورية، وأن نضع كل شيء على طاولة التشريح والبحث والتحليل والمناقشة والحوار، ولكن!!!:
-من سيقوم بذلك الحوار وما هي مؤهلاته؟
-ما هي أخلاقيات الحوار والمناقشة؟
-هل وسائل التواصل الاجتماعي هي المكان الأمثل لهذا النقاش؟
انتظار هذا الحوار المعقم بين السوريين، قد يشبه انتظار غودو، لكن كما تقول العرب “ما لا يدرك كله لا يترك جله”، أي أننا يمكن أن نقسم إنجاز الأمنيات إلى مراحل وخطوات، لكن في الوقت ذاته يمكننا أن نكون حذرين من اختلاف طبيعة خطاب وسائل التواصل الاجتماعي عن الخطاب الواقعي.
يكتب أحدهم مثلاً حول شخص تدور حوله الشكوك في قضية عامة: هو رجل محترم، وكريم واستقبلني في بيته، ويحبذ العيش المشترك، ويعتني بلباسه جيداً وقدم لي العشاء الأخير!
يا أخي في “السورية” على رسلك، أنا لا أريد أن أزوجه ابنتي، لا، الأمر أبعد من ذلك بكثير، صديقنا الكريم الذي يستقبلنا في بيته ويقدم لنا المساعدة، عليه تهمة كبيرة تتعلق بحالة فساد، لا علاقة لها بكل ما ذكرت، وربما كان يصرف علينا حين استقبلنا في بيته من لحم فساده، من المهم التأكيد على أن أخلاقيات الاعتراف تتضاءل، وأخلاقيات استقالة المخطئ باتت شبه معدومة. وكذلك إقالة المخطئ من قبل المشغِّل أو صاحب القرار لم تعد واردة، لأنه يقول لك: من الصعب أن أجد أردأ من هذا الرديء الذي اختبرت رداءته فترة طويلة، وثقافة “اللي بتعرفوا أحسن من اللي ما بتعرفوا” تسود المشهد، افتقاد الجغرافية والخجل الاجتماعي والحوكمة جعل من صاحب القرار إمبراطوراً فيما يملك ويأمر، لذلك تثار قضايا سورية كبرى ثم تطوى بنظرية “التطنيش” والنسيان و”أعلى ما بخيلهم يركبوه” ما دام صاحب القرار بالبقاء في المنصب راضيا.
في الثقافة الشعبية، كان غالباً ما يأتي “تبويس الشوارب” بعد أن يقوم “كبارية الحارة” بإحقاق الحق، أو بالتبرع من مالهم الخاص درءاً للفتن. أما اليوم فإن “تبويس الشوارب الفيسبوكي السوري” لا قانون له، ولا ناظم.
قد يكون لدى كثير منا رؤى وتفاصيل ومعلومات عما ورد أعلاه، وربما شاركنا في تلك الترندات بطريقة أو بأخرى ولعل ما لفت نظرنا هو ذلك “العدم السوري”، لغة اتهامية وتخوينية في طرح الأفكار أو في الرد عليها، تدعي ما تريد، وتلغي ما تريد وتستعمل أمثالاً وأفكاراً دون أي احترام، “تهويشات” ومناوشات وتكفيرات وعدميات لا تنتهي، حيث إن الزمان زمان حرب الترند، وفي الحرب تفتقد لغة العقل وتحضر لغة “غزية إن غوت”.
نشهد اليوم زماناً لم يعد فيه “كبارية للفيسبوك”؛ فالشارة الزرقاء تشترى بالمال، ولا تُحصَّل بالتاريخ المجيد، والفعل الحميد، بل يمكنك أن تروج لمنشورك مهما كان غير أخلاقي بالمال المسروق الحرام.
في الثقافة الشعبية، كان غالباً ما يأتي “تبويس الشوارب” بعد أن يقوم “كبارية الحارة” بإحقاق الحق، أو بالتبرع من مالهم الخاص درءاً للفتن. أما اليوم فإن “تبويس الشوارب الفيسبوكي السوري” لا قانون له، ولا ناظم. اطمئن؛ سيأتي ترند آخر ويجرف هذا الترند في حد أقصاه سبعة أيام.
كثيرون سيغلقون صفحاتهم حتى ينتهي الترند الخاص بهم ولا يوجد من يحاسبهم أخلاقياً أو قانونياً أو اجتماعياً أو يخجلون منه.
الأمر بسيط للغاية: مجموعة من المطبلين المستفيدين، أو تغيير اسم الصفحة، أو صناعة ترند جديد، أو “طنش تعش تنتعش”، أو أن تقدم نفسك كـ ضحية في زمان التعاطف مع الضحايا وحقوق الإنسان، ونحن نصدق الضحايا أولاً، مع أن الضحية والمضحى به وموضوع التضحية “دافنينو سوا” وما دام أحد لم يحضر عملية الدفن، فإنه من المهم أن تكون الجنازة الفيسبوكية كبيرة وهائلة وحملة لا نهاية لها، مع أن الميت جَمل كبير، لا يمكن أن نخفي جثته، أو أن نسجل الجريمة ضد مجهول، في زمان “حلق الشوارب الرمزي” ورجولة وأنوثة قوس قزح، والمجاهرة بالخطيئة، والاهتمام العنفي بالذات وخياراتها، بدلاً من التضحية من أجل الآخر، ويحق لنا أن ندعس على الآخر لأننا ضحايا، ويحق للضحية ما لا يحق لغيرها!
وبناء عليه لم يعد أحد يستمع إلى المثل الشهير:
ما هكذا تورد الإبل يا سعد، أوما هكذا تورد “البوستات” والترندات عبر وسائل التواصل الاجتماعي!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا