حسن النيفي
قد يكون الحديث عن المصالحات الوطنية أو المجتمعية أمراً مشروعاً حين يكون جذر المشكلة مجتمعياً، كأن يكون نتيجةً لنزاع عرقي أو ديني أو إثني، أو ناتجاً عن حرب أهلية طاحنة بين جماعات يدافع كلّ منها عن مطالب محددة تتضارب مع مصالح الجماعة الأخرى، وقد انعدمت بينها جميع أواصر التعايش أو القدرة على الاندماج المجتمعي.
وحينئذ تخرج السيطرة عن قدرة القوى المحلية، باعتبارها جزءاً من المشكلة أصلاً، وتصبح الحاجة ماسةً إلى تدخل خارجي ممثل بجهة أممية تشرف على مساعي حل النزاع، تماماً كما حدث في جنوبي أفريقيا ورواندا وبعض دول أميركا اللاتينية.
في مشروعية مسعى المصالحات
يحيل أصحاب دعوة المصالحات مشروعية مسعاهم إلى مبدأ فحواه أن المصالحات الوطنية لا ينبغي أن تتم بين السلطة الحاكمة والشعب فحسب، بل بين فئات الشعب السوري بعضها البعض أيضاً. ولما كانت المصالحة بين نظام الحكم القائم والشعب السوري شبه مستحيلة في المدى المنظور، فلا بدّ من الذهاب إلى الضفة الثانية، ضفة الشرائح المجتمعية السورية المتنازعة أو المتطاحنة. وواقع الحال أن هذا الطرح يُضمر أمرين اثنين: الأول هو إقرار ضمني من أصحاب هذا التوجه بالإخفاق الكلّي في مواجهة المشكلة الجذرية المتمثلة في الصراع بين السلطة الحاكمة والشعب، وأن الفشل في مواجهة هذه المشكلة لم يكن حافزاً للبحث عن مقاربات جديدة لحلها، بل كان دافعاً لتحاشيها، إن لم يكن هروباً من إعلان الفشل في التعاطي معها. أما الأمر الثاني، فيتمثل بفقدان التلازم بين المسألتين – وفقاً لأصحاب هذه الدعوة – وكأن النزاع المجتمعي، إن كان موجوداً بالفعل، هو قدر مخلوق في جينات السوريين ولا علاقة له البتة بالسلطة الحاكمة ومجمل أشكال سلوكها بحق السوريين.
ما حدث في آذار 2011 هو ثورة شعب لانتزاع حقوقه واسترداد الدولة السورية من أيدي طغمة حاكمة اغتصبت السلطة وصادرت حقوق المواطنين السوريين منذ أكثر من نصف قرن. إلا أن هذه الثورة أخفقت بفعل عوامل عديدة، ذاتية وخارجية، وكان لهذا الإخفاق تداعيات فادحة، لعل أقل ما يُقال فيها أنها تركت الجرح السوري مرتعاً لتحط فيه جميع الأوبئة. ولما باتت الدعوة إلى تنظيف هذا الجرح أو استئصال أدوائه المزمنة أمراً يفوق قدرة وإمكانيات أصحاب الوجع أنفسهم، لم يبقَ لدى الآخرين سوى الدعوة إلى إغلاق هذا الجرح بما فيه من قيء، أو تجاهله والتشاغل بتداعياته الفرعية أو الثانوية، كمن يحاول علاج ظاهرة مرضية دون الالتفات إلى أسباب نشوئها. ولعل هذا هو حال أصحاب الدعوة إلى المصالحات (السورية-السورية) حين يجدون أن نشوء عوامل الخراب وتفاقمها قد انبثق من النسيج الاجتماعي السوري غير المتجانس – عرقياً ودينياً وإثنياً – بل المتنافر والقابل للاشتعال حتى التفحم. وبالتالي، لا بدّ من المضيّ بالحفر للتنقيب عن المزيد من مظاهر الخراب، بل والاجتهاد في إيجادها وتأصيلها بغيةَ التدليل على المشروعية الشكلية للاستقراء وليس على نجاعته أو صوابه. وربما باتت الكارثة السورية، وفقاً لهذا المنظور، حقلاً خصباً لمزيد من الدراسات والاجتهادات لطلاب وباحثي علم الاجتماع. ولا نستغرب أيضاً ذهاب البعض من هؤلاء إلى القول بأن استفحال تلك الكارثة كان نتيجة لطغيان (المنهج الوصفي) وغياب (المنهج التحليلي). وحينها يغدو استحضار (ماكس فيبر) وأبرز نظريات علم الاجتماع، التي يمكن من خلالها مقاربة النزاعات الأهلية، المجال المُفضَّل والبديل عن المقاربات السياسية لجوهر القضية السورية.
لا يوجد بلد في العالم يخلو من تعدد الهويات وتنوعها، سواء أكانت عرقية أو دينية أو إثنية. لكن هذا التعدد الهوياتي لم يكن حائلاً دون وجود هوية وطنية جامعة لا تلغي الهويات الفرعية، بل تعمل على تأطير مساحاتها والحفاظ عليها ضمن ما يحفظ للأفراد حقوقهم.
يستند أصحاب دعوة المصالحات المجتمعية إلى ظاهرتين تجسّدتا حسياً في المشهد السوري الراهن. وبالتالي فإن استمرار هاتين الظاهرتين كأمر واقع، هو ما يدل على أن مكمن الأزمة بات في النسيج المجتمعي السوري بعيداً عن السلطة الحاكمة. وتتجسّد هاتان الظاهرتان فيما يلي:
أولاً: بروز الهويات البدئية أو ما دون الوطنية (العرقية، الدينية، الطائفية، والعشائرية)، في موازاة غياب الهوية الجامعة (الوطنية). وهذه ظاهرة واضحة للعيان، بل يمكن الذهاب إلى أن ظهورها يبدو حتمياً في البلدان التي تشهد غياباً للعقد الاجتماعي الجامع، إضافة إلى غياب سلطة مركزية تُعدّ وجودها حامياً وضامناً لحقوق المواطنين. حينئذ يصبح البحث عن مرجعية يلوذ بها المواطن هاجساً لدى الجميع. إلا أن هذا السلوك البدئي هو أحد مفرزات الأزمة وليس سبيلاً من سبل الحل، فضلاً عن أن سبب نشوئه هو سلوك السلطة التي فتحت الحدود السورية لجميع الجيوش الخارجية والميليشيات والمرتزقة التي استقوت بهم لقهر إرادة الشعب السوري. الأمر الذي دفع بالعموم من السوريين للبحث عن حواضن تحفظ أمنهم وتصون حياتهم ووجودهم من تغوّل الدخلاء الذين لم يدخروا وسيلة من وسائل التنكيل وإذلال المواطنين. الآن، يمكن أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: لو أن نظام الأسد استجاب لرغبة السوريين وتخلى عن السلطة، وحلت مكانه سلطة وطنية منبثقة عن إرادة السوريين ومستجيبة لتطلعاتهم وفقاً للدستور وسلطة القانون، ونجحت في إيجاد مظلة وطنية جامعة لتوافقات السوريين السياسية والاجتماعية، هل سيصر المواطنون على العزوف عن تلك المظلة ويفضّلون اللجوء إلى المرجعيات العشائرية أو الطائفية أو العرقية أو الدينية الأخرى؟
ثانياً: تعدد سلطات الأمر الواقع، وذلك نتيجة لتقاسم النفوذ الدولي على الجغرافيا السورية. ولعل التخوم الفاصلة بين مناطق تلك السلطات هي تخوم قتالية في الغالب، اقتضتها الحاجات الأمنية للقائمين على تلك السلطات وليس المصلحة العامة للمواطنين. وبالتالي، فإن وجود تلك السلطات جاء تعبيراً عن تنافر مصالح الدول النافذة في الشأن السوري وليس نتيجة لتنافر سكاني سوري. إذ لا توجد أي مشكلة قائمة بين سكان إدلب وسكان اعزاز أو عفرين أو القامشلي أو الرقة أو حلب أو سكان أي مدينة أخرى. بل المشكلة قائمة بين من هم على رأس تلك السلطات. القضاء على ظاهرة تعدد السلطات وإزالة التخوم بين أشلاء الجغرافيا السورية لا يقتضي مصالحات مجتمعية بين أبناء وأهالي تلك المدن والبلدات، بل عبر حل سياسي يُنهي التدخل الخارجي الدولي. وبالتالي، ستزول تلك السلطات بزوال الدول الراعية والداعمة لها على الأرض السورية. مع التأكيد على أن عدم وجود رغبة دولية في إلزام نظام الأسد بحل سياسي وفقاً للقرارات الأممية هو ما يتيح استمرار التدخل الدولي الخارجي في سوريا.
ما يوحّد السوريين ويجمعهم ويعزز التوافق الأهلي والمجتمعي فيما بينهم هو المصالح المشتركة والحاجات الاقتصادية والسياسية والثقافية والمعيشية.
هل ثمة مشكلة في الهويات الفرعية؟
لا يوجد بلد في العالم يخلو من تعدد الهويات وتنوعها، سواء أكانت عرقية أو دينية أو إثنية. لكن هذا التعدد الهوياتي لم يكن حائلاً دون وجود هوية وطنية جامعة لا تلغي الهويات الفرعية، بل تعمل على تأطير مساحاتها والحفاظ عليها ضمن ما يحفظ للأفراد حقوقهم. إذ لا أحد يمكن أن يصادر للمرء انتماءه لقوميته أو دينه أو طائفته. علماً أن ولاء الأفراد ودفاعهم عن تلك الانتماءات لا يمكن اعتباره شكلاً من أشكال النزاع المجتمعي. ولكن في الوقت ذاته، يمكن التأكيد على أن جميع تلك الانتماءات (الهويات) ذات المعطى التاريخي (العرقي أو الديني) قد فشلت في أن تكون هوية وطنية جامعة. ولعل الهوية التي يحتاجها السوريون هي التي تنبثق محدداتها ومعالمها من معطيات الحياة المعاصرة، باعتبار الهوية شأناً متبدلاً قابلاً للتغير وليس معطًى ثابتاً. فالذي يوحّد السوريين ويجمعهم ويعزز التوافق الأهلي والمجتمعي فيما بينهم هو المصالح المشتركة والحاجات الاقتصادية والسياسية والثقافية والمعيشية. والمدخل إلى تأمين تلك الحاجات والمصالح يكون عبر العقد الاجتماعي الذي يصونه الدستور وتجسده القوانين، أو عبر “الجماعة السياسية”، وفقاً لياسين الحاج صالح. عندئذٍ يكون مفهوم “الهوية الوطنية” غير منفصل عن منظومة الحقوق ذات الصلة بكرامة المواطن وحريته وحقه في العيش الكريم، بما في ذلك حقه في الاعتزاز بانتمائه العرقي أو الديني أو الإثني.
ما من شك بأن جميع البلدان التي شهدت حروباً طويلة الأمد كالحالة السورية قد مُنيت بتصدعات مجتمعية تركت تداعيات بالغة الأثر لا يمكن تجاهلها. ولكن ما من شك أيضاً بأن التعاطي مع تلك التصدعات والعمل على ترميمها مرهون بالقدرة على مواجهة الأسباب الجذرية لتلك التصدعات، وهي أسباب سياسية في الحالة السورية، تتمثل في وجود نظام حكم لديه الرغبة المطلقة في البقاء في السلطة، حتى لو أحال البلاد إلى أكوام رماد (“الأسد أو نحرق البلد”). فكما أن السبب الرئيس لأصل المشكلة لم يكن صراعاً هوياتياً، فإن الحل لن يكون بمصالحات هوياتية. وعلى ضوء ذلك، حتى لو كنّا – كجماعات سورية مأزومة مجتمعياً – بحاجة إلى مصالحات، فإن جدوى تلك المصالحات ونتائجها المرجوّة لن تتحقق باستمرار وجود جذر المشكلة المتمثل في “الكارثة الأسدية”.
المصدر: تلفزيون سوريا