معقل زهور عدي
إذا أخذنا زمن التدوين والترجمة ضمن العصر العباسي والكائن بين 132 – 238 للهجرة وكيف كانت السياسة تدار فيه بعد استتباب السلطة للعباسيين وانشقاقهم عن ” آل البيت ” نحو مذهب أهل السنة والجماعة ثم محاولة الشيعة استعادة السلطة وفشلهم في ذلك , وميلهم لمناجزة العباسيين في ميدان الفكر والثقافة , وتوجه المأمون ضمن ذلك الصراع الفكري نحو المعتزلة الذين أخذوا على عاتقهم الدفاع عن الاسلام السني ضد ماسمي بالشعوبية خاصة ضد المانوية , وكذلك ضد الشيعة بما في ذلك الاسماعيلية التي كانت الأكثر اهتماما بإدخال الفلسفة للدين نرى أن الصراع السياسي كان يجري دائما داخل ميدان المذاهب , ومهما كانت العوامل السياسية الأخرى من قومية أو اجتماعية أوقبلية فقد كان لزاما عليها أن تعبر عن نفسها بلبوس ديني مذهبي يتخذ من مفردات الإسلام الأكثر عمومية مادته الظاهرية في حين يترك لنفسه الحرية في البناء الداخلي الذي يضم عناصر متباينة بعضها مستمد من الفلسفة اليونانية وآخر من الهرمسية وثالث من المعتقدات الشرقية القديمة كالهندوسية والبوذية .
المهم في الموضوع أن الصراع السياسي كانت له صفتان رئيسيتان التمذهب كما سبق وكونه يجري ضمن بنى عصبوية – قبلية أو عصبوية شبيهة بالأحزاب والجمعيات السرية , ولا ينقلب إلى صراع علني يدخل ضمنه عامة الناس سوى في مرحلة الحسم النهائي ولفترة قصيرة للغاية .
ولئن كان ذلك الحال في العصر العباسي الأوسط فقد استمر مع تعديلات في العصور اللاحقة , وأهم تعديل طرأ عليه هو أفول نجم العرب الذين انحسر دورهم في السلطة على حساب العناصر الفارسية والتركية ثم المماليك القادمين من شرق اوربة وأواسط آسيا , وفي انحسار دور العرب مع استمرار تعاظم سلطتهم الثقافية العربية – الاسلامية أصبح الصراع السياسي أكثر انغلاقا من السابق , وفي عصر المماليك انفصلت
المجموعات المملوكية التي تتنازع السلطة عن عموم الشعب في دمشق كما في القاهرة , لكنها بقيت في السلطة أقل قليلا من ثلاثمئة عام كونها قاتلت دفاعا عن البلاد ضد المغول والصليبيين ونجحت إلى حد كبير في مهمتها المقدسة تلك قبل أن يتآكلها الفساد وتفتك بها الانقسامات الداخلية .
لم يكن الصراع السياسي في تلك الفترة من نهاية العصر العباسي الأوسط وحتى نهاية عصر المماليك بحاجة لادخال العناصر الفكرية , أما العنصر المذهبي فقد كان قد ترسخ بالفعل بعد انهيار الدولة الفاطمية
وهكذا أصبح الصراع السياسي ضيقا على المستويين الاجتماعي والفكري , ولم يعد من هم للسكان سوى الأمن وتحقيق الحد الأدنى من العدل الأمر الذي اضطلع به بنجاح القضاء الاسلامي في معظم الحالات .
أتاح انحسار الصراع السياسي عن الفكر ولاحقا عن التمذهب انصراف عموم الشعب واغترابهم عن السياسة , لقد أصبحت السياسة شأنا خارجيا وليس شأنا داخليا , وجرى ذلك على امتداد حكم المماليك وقبلهم الأيوبيين بعد قضائهم على الدولة الفاطمية وصولا للعثمانيين , وحين سيطر العثمانيون على المشرق العربي بعد معركة مرج دابق عام 1516 م وجدوا مجتمعا قد اعتاد أن ينظم نفسه بحيث لم يعد يهمه أمر السلطة السياسية سوى أن يكون الحاكم مسلما يقيم شعائر الاسلام وأن يتمتع المجتمع بحد أدنى بالأمن وعدالة القضاء .
هكذا لم يجد المشرق العربي من فارق بين المماليك والعثمانيين , بل عبر عن ارتياحه من الخلاص من المماليك الذين أفسدت السلطة الطويلة أخلاقهم , ولم يعودوا يصغون لمصالح الناس وحاجاتهم .
لم تتغير دائرة الصراع السياسي طيلة عصر العثمانيين في المشرق العربي سوى أن الخلافات بين السلاطين كانت تتم بعيدا عنه , كما أن انقسامات العثمانيين السياسية كانت تتم في إطار أضيق بحيث لا تمس وحدة البلاد كما كان الحال عليه أيام المماليك .
بالمحصلة يمكن القول إنه بعد انهيار الدولة الفاطمية وانحسار التشيع وابتعاد العرب عن السلطة السياسية نشأ هناك اغتراب كبير وعميق بين السياسة باعتبارها الفعالية المنتجة للدولة والحكم وبين المجتمع بكل فعالياته الاقتصادية والاجتماعية ماعدا خيوط محدودة في العدد والتأثير ظلت تربط الطبقة الاجتماعية العليا من كبار التجار وأهم علماء الدين وأكثرهم تأثيرا في المجتمع بالسلطة , ومع ذلك فقد اتخذ ذلك الارتباط في معظم الوقت طابع الولاء وليس المناكفة أو العصيان , لقد كانوا أدوات لتعزيز السلطة وليس تهديدا لها .
نخلص للقول هذا ما كان عليه المشرق العربي حتى منتصف القرن التاسع عشر حين بدأت تأثيرات الحضارة الأوربية الحديثة تصل مع حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798 م ثم مع البعثات التي أرسلها محمد علي باشا لأوربة في محاولته بناء دولة حديثة وأخيرا في مرحلة الضعف التي وصلت إليها الدولة العثمانية واضطرارها لمنح الدول الأوربية امتيازات اقتصادية وثقافية ضمن المشرق العربي خاصة لبنان وسورية .
منذ منتصف القرن التاسع عشروصولا لمطلع القرن العشرين كانت النخب العربية التي أنجبتها الأرستقراطية العربية قد تشربت أفكار الثورة الفرنسية ومفكري عصر الأنوار وشكل الدولة الحديثة بما في ذلك مفهوم العقد الاجتماعي والمواطنة والحرية والمساواة والدستور والديمقراطية .
لكنها واجهت مجتمعا يعيش في مفاهيم الماضي ونمط انتاج بدائيا واقتصادا زراعيا متخلفا , فلم تتمكن من توسيع دائرة السياسة سوى بعد خروج الجيوش العثمانية من سورية ودخول الحلفاء مع الأمير فيصل بن الحسين الذي كان يطمح لتأسيس مملكة عربية سورية دستورية قريبة من النمط الأوربي .
أسفر انتشار الوعي السياسي في ظل مناخ يتسم بالحرية خلال السنتين من عمر العهد الفيصلي لانخراط قطاع واسع نسبيا من الشعب في بلاد الشام في السياسة، لدرجة أن الحكومة الفيصلية الحديثة العهد كانت مجبرة على الخضوع للراي العام الذي امتلك أدوات حديثة للتعبير كالصحف السياسية، ففي دمشق وحدها صدرت عشرون صحيفة , وكالتجمعات السياسية في النوادي , والمظاهرات في الشوارع واللجان الشعبية الفاعلة , إضافة للأحزاب كحزب الاستقلال العربي , والاتحاد السوري , والحزب الحر المعتدل . وقد وصفت الصحف الغربية سياسة الحكومة السورية وقتها بالسياسة الجماهيرية مشيرة لمدى تأثرها بالشارع والرأي العام .
ورغم قصر مدة العهد الفيصلي لكنه ترك تغيرا ملحوظا في مفهوم السياسة لدى الشعب , ولأول مرة شعر المجتمع أنه معني بالحكم والسياسة بل وأنه قادرعلى التأثير فيهما .
ويكمن خلف تغير مفهوم السياسة انتقال السياسة من الطبقة الأرستقراطية التي عملت على احتكارها سابقا في العهد العثماني إلى الطبقة الوسطى المدينية وطلائعها المثقفة ( يرجى مراجعة كتابي تحولات القومية العربية – الفصل المتعلق بدور الأرستقراطية العربية في السياسة مطلع القرن العشرين ) .
يمكن القول إن التغير الذي طرأ على مفهوم السياسة لدى الطبقة الوسطى المدينية والمستمد من المفاهيم الأوربية الحديثة في العهد الفيصلي استمر في عهد الاحتلال الفرنسي لكنه توجه أساسا للكفاح من أجل الاستقلال . أما شكل الدولة والحكم فلم يخرج عن دستور العهد الفيصلي ” دستور العام 1920″ سوى باستبدال الملكية الدستورية بالجمهورية بتأثير من الثقافة الفرنسية .
بدأ عهد الاستقلال بالسير على هدي مفهوم الدولة الذي كان قد ترسخ في دستور العام 1930 وكل ما حصل بعد ذلك لم يكن سوى استمرار لذلك المفهوم او انتكاس عنه تم تحت شعار الثورية أو الاشتراكية أو حتى بدون تلك الشعارات كما في حالة الديكتاتورية المجردة .
مايعانيه مفهوم السياسة اليوم هو أن أي فشل في الحركة السياسية الشعبية يرتد مباشرة لاستعادة المفاهيم القديمة التي عاش عليها المجتمع في المشرق العربي لقرون طويلة من انفصال بين السياسة كفعالية اجتماعية مولدة للسلطة السياسية ومراقبة لها وقادرة على تغيير تلك السلطة وبين المجتمع المدني ذاته .
وهذا الانفصال يجد دعمه من الفكر المحافظ التقليدي الذي لايرى في تدخل الفعاليات الاجتماعية في السياسة سوى منازعة في الأمر لأولي الأمر . فالمسالة هنا تعود لتصبح مسألة فكر وعقل جمعي مازال مرتهنا للماضي إلى هذا الحد أو ذاك .
هذا ببساطة ما يفسر لنا كيف يعقب الثورات الشعبية حين انتكاسها العودة للسكون التام والانكفاء عن السياسة , إنها المفاهيم الفكرية الموروثة في العقل الجمعي العربي والتي ترسخت عبر مئات السنين مازالت حية وفاعلة تترصد أي فرصة للقفز نحو الانتقال من حالة الكمون لحالة الفعل .
وفي الخلاصة فإن أي ثورة حقيقية تستحق ذلك الاسم لابد أن تكون قادرة على تغيير تلك المفاهيم بصورة جذرية ونهائية، لينفتح أمام الشعوب العربية طريق التقدم وكي لا تتحول الهزيمة السياسية في أي وقت إلى هزيمة تاريخية .