وائل نجم
لعلّ من أهم إنجازات معركة طوفان الأقصى أنّها كشفت بشكل واضح نيّات القيادة السياسية الإسرائيلية الحالية، وعرّت الأهداف الحقيقية من العدوان على غزّة ولبنان معاً. فقد وقف رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، يوم 27 الشهر المناضي (سبتمبر/ أيلول) الماضي، أمام الجمعية العامة للأمم المتّحدة، ورفع خريطة “إسرائيل الكُبرى”، التي تمتّد من نهر النيل في مصر إلى نهر الفرات في العراق، شاملةً سورية ولبنان والأردن والكويت، وأجزاء من السعودية والعراق وتركيا، فضلاً عن فلسطين كاملةّ، وإن كان قد عرض الخريطة على أنّها لـ”إسرائيل” وحلفائها في وجه “تحالف الشرّ” المتمثّل بإيران، بحسب نتنياهو، الذي كان رفع الخريطة نفسها في 23 سيتمبر/ أيلول 2023، وأمام الجمعية العامة للأمم المتّحدة أيضاً، ولكن على أنّها لـ”إسرائيل الكُبرى”.
ثمّ بعد إحرازه بعض الإنجازات التكتيكية في حربه على لبنان، عندما فجّر أجهزة البيجر لعناصر حزب الله، ثمّ بعد تمكّنه من اغتيال عدد من قياديّ الحزب، وصولاً إلى اغتيال أمينه العام، حسن نصر الله، انتشى نتنياهو وقادته بهذه الإنجازات، وكشف نياته الحقيقية من حربه على غزّة وعلى لبنان، ونسيَ استعادة الأسرى من غزّة وإعادة المستوطنين إلى شمال فلسطين، وتحدّث عن تغيير النظام في لبنان، ومن ثمّ تغيير الشرق الأوسط كلّه بما يناسب المصالح الإسرائيلية، ويلبّي طموحات القادة الإسرائيليين المتحكّمين بالقرار الإسرائيلي في هذه المرحلة، وصولاً إلى فرض “إسرائيل كُبرى”.
غير أنّ هذه النيات والطموحات شيء وتحقيقها شيء آخر. فالإنجازات التكتيكية التي أحرزها الاحتلال في المستوى الأمني، ومكّنته من اغتيال عدد من أبرز قيادات حزب الله، بدأت تتلاشى مع بدء المواجهات العسكرية، لا سيّما البرّية منها، فالحزب الذي تمكّن خلال فترة وجيزة من إعادة ترميم بنيته التنظيمية، استطاع أن يواصل إطلاق الصواريخ قصيرة المدى وطويلة المدى والدقيقة نحو المواقع والقواعد العسكرية في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وصولاً إلى جنوب تلّ أبيب. كما استطاع أن يصدّ المحاولات البريّة الإسرائيلية لاجتياح قرى في منطقة جنوب الليطاني أو في القرى الحدودية، وألحق بالقوات المهاجمة خسائرَ فادحةً وفقاً لاعترافاتهم. وبالتالي، راح يبدو للإسرائيلي أنّ تغيير النظام في لبنان ليس سهلاً، فضلاً عن تغيير المنطقة برمّتها وإخضاعها لهيمنته وسيطرته وسطوته.
إسرائيل بالنسبة لأميركا قاعدة عسكرية متقدّمة تحمي بها مصالحها، وتحكم من خلالها المنطقةَ
ثمّ هناك ربّما ما هو أهمّ من صمود وثبات الموقفَين والميدانَين اللبناني والفلسطيني، وربّما أيضاً ما هو أكثر أهمّيةً من مصالح دول إقليمية، كما في حال إيران التي لا تقبل بأيّ شكل من الأشكال تغيير الشرق الأوسط كما يحلو لنتنياهو، لأنّ ذلك سيكون على حسابها وعلى حساب أمنها القومي، وهي ربّما لأجل ذلك تجرّأت وقصفت القواعد العسكرية الإسرائيلية في عمق الأراضي المحتلّة في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تحت عنوان الردِّ على اغتيال إسماعيل هنيّة وحسن نصر الله… الأكثر أهمّيةً من ذلك، هل تقبل أميركا، الداعم الرئيس لإسرائيل في حربها وعدوانها على المنطقة، وفي التزامها العميق والدقيق الدفاع عن إسرائيل، بـ”إسرائيل كُبرى” من الفرات إلى النيل؟ … هذه المنطقة حيوية جدّاً بالنسبة لأميركا، وتمثّل أساس زعامة الولايات المتّحدة للعالم. فهي منطقة تحوي قرابة 70% من احتياطات النفط والغاز، وهذه مادّة حيوية لا غنى للعالم عنها في الأفق المنظور، وهذه المنطقة تضمّ أغلب الممرَّات البحرية المتحكّمة بالتجارة العالمية في باب المندب ومضيق هرمز وقناة السويس. هذه المنطقة تُعَدُّ قلب العالم، إذ تتوسّط القارات الثلاث، آسيا أوروبا وأفريقيا، ومن يسيطر على قلب العالم يسيطر على العالم، وفقاً لنظرية منظّر السياسة الخارجية الأميركية، وأستاذها الفريد هنري كيسنجر، وبالتالي من يسيطر عليها يسيطر على العالم.
ثمّ إنّ إسرائيل بالنسبة لأميركا قاعدة عسكرية متقدّمة تحمي بها مصالحها، وتحكم من خلالها المنطقةَ، فهي العصا الغليظة التي تستخدمها أميركا عندما تجد ذلك ضرورياً فيما تقدّم نفسها وسيطاً يعمل على حلّ النزاعات، تماماً كما هو حاصل حالياً في وساطتها بين إسرائيل والفلسطينيين، وأيضاً اللبنانيين. فهل تسمح أميركا لهذه القاعدة العسكرية بأن تتحوّل قوّةً إقليميةً سياسيةً تنازعها الهيمنة والسيطرة، وتتحرّر من قراراتها، وتصبح زعيمة المنطقة؟
أغلب الظنّ أنّه حتّى أميركا لا تقبل ذلك، لأنّ الدول لا تحكمها العواطف إنّما المصالح. لكلّ ذلك ولغيره من اعتبارات لم تُذكَر، فإنّ طموحات قادة إسرائيل في إقامة “إسرائيل كُبرى” غير قابلة للتحقّق، غير أنّ ما يجري حالياً هو إضعاف الأطراف كافّة، وصولاً إلى حالة إنهاك تسمح بإعادة إنتاج صيغة معدّلة تُكرِّس معادلةَ تَحَكُّم أميركا بالمشهد كلّه، ولو على حساب دماء الأبرياء.
المصدر: العربي الجديد