د. مخلص الصيادي
لقد نال ما أراد، ارتقى إلى ربه من ميدان المعركة، وفي مواجهة قوات العدو وبين إخوانه المجاهدين، بلباس المعركة، قابض على سلاحه، عزيز في موقعه، يضرب المثل لكل المجاهدين بأن هذا موقع القائد، وهذه أسمى أمنياته، الشهادة له، والنصر لشعبه وأمته، وهل هناك نصر بدون شهادة، وهل يمتحن صدق القيادة إلا في مواقع الشرف هذه.
لم يفاجئني استشهاد “يحيى السنوار” قائد حركة حماس، فهو دائما كان مشروع شهادة كغيره من إخوانه، لكنه يوم أن اختير رئيسا للمكتب السياسي لحركة حماس خلفا للشهيد إسماعيل هنية الذي اغتيل في طهران، صار السنوار الهدف الأول لقوات الاحتلال، صار الوصول إليه هو العنوان البارز الذي يسعى إليه زعيم الإرهاب الصهيوني بنيامين نتنياهو للتغطية على فشله في تحقيق أهدافه في الحرب الدائرة على غزة منذ أكثر من عام، وللتغطية على جرائم الحرب التي ارتكبتها قواته ضد الوجود الإنساني في غزة، ضد البشر والحجر والقيم الإنسانية.
وفي الصورة الأولى التي تسربت بعد استشهاده وهو مضرج بدمه الزكي تعرت الكثير من الجهات، والزعامات، والمرجعيات، والمصادر الإخبارية والسياسية، التي كانت تروج وتزعم كلها أن السنوار، كان بعيدا عن ساحة القتال، متخفيا في عمق ومتاهة الأنفاق، متحصنا بعشرات الأسرى الصهاينة، وأن المحادثات التي تدور في الخفاء كانت حول فرص الخروج الآمن لهذا المجاهد ولمن معه إلى خارج القطاع، حتى بدا في تصور البعض أن هذا الخروج هو الهدف.
خسئ الجميع، جميع الأعداء، وجميع المرجفين، وجميع المنافقين، وإني لأستشعر بالشهيد البطل وروحه ترقى إلى بارئها وهي تسخر من هؤلاء جميعا، فيما تختزن نظرة عينيه الثاقبة عمق اليقين بأن النصر آت بإذن الله، وبأنه يصعد ليلتقي الصادقين من المجاهدين الذين سبقوه على هذا الطريق، مصطحبا معه صورة الصمود البطولي، والمعجزة الغزية الخالدة، التي وقفت تدافع عن الأمة ومقدساتها لأكثر من عام وما زالت وحيدة إلا من ثلة من المؤمنين، مجاهدين وصابرين، وإلا من قلة من أصحاب الضمير يتوزعون في بقاع كثيرة من هذا العالم، يعلنون وقوفهم إلى جانب فلسطين وأهلها ومجاهديها، وفي مواجهة العنصرية الصهيونية والغربية، لكن مما يدمي القلب أن يكون نصيب المسلمين والعرب من هؤلاء الشرفاء نصيب شحيح، حتى يكاد لا يرى.
وليس عجيبا أن يسرع رئيس الولايات المتحدة والعديد من قادتها السياسيين، والعديد من قادة العالم الغربي المتصهين لتهنئة زعيم الإرهاب الصهيوني بنيامين نتنياهو على هذا “الإنجاز”، معتبرين كما قال الرئيس “جو بايدن” أن هذا “يوم جيد لإسرائيل وأمريكا والعالم”، وأن العالم سيكون أفضل بدون السنوار، ولم ينس بايدن أن يشير إلى دور المساعدة الأمريكية في تحقيق هذا “الإنجاز”.
لكن العجيب أن يجزم الرئيس الأمريكي في تصريحه الذي أعقب التأكيد على مقتل السنوار أن “حماس لن تستطيع أن تشن هجوما آخر مثل طوفان الأقصى”، وأن يجزم بأن هدف إعادة الأسرى الصهاينة صار أقرب، رغم أن نتنياهو بكل القوة التي أمدته بها الصهيونية العالمية والنظام الغربي المتصهين لم يستطع على مدى تجاوز العام أن يحرر أسيرا، أو يصل بحق إلى أسير.
هل يعتقد “بايدن” حقا أن وجود المقاومة، مرتبط بوجود شخص السنوار على عظم مكانته ودوره، وأن هذا الصمود الأسطوري للمجاهدين، وللشعب الفلسطيني مرتبط بوجود قائد معين!
في تاريخ مقاومة المحتل شواهد لا تحصى على أن “المقاومة” سنة من سنن الاجتماع والحياة الإنسانية، لا تستقيم الحياة بدونها، وأنها لا تتوقف حتى ينتهي الاحتلال، وفي تاريخ الصراع العربي الصهيوني، شواهد كثيرة مماثلة، وفي مسيرة المقاومة الفلسطينية مثل ذلك، ولو اقتصر نظرنا على مرحلة التي أعقبت توقيع اتفاقية أوسلو المشؤومة لوجدنا صفحات مجيدة من الجهاد تصب كلها في هذا المسار، ولبرزت أمامنا أسماء العديد من الشهداء والقادة من مختلف المنظمات والقوى الفلسطينية، وعلى مستوى حركة حماس تستطع صورة الشهيد الشيخ أحمد ياسين، وقبله يحيى عياش، وكذلك عبد العزيز الرنتيسي، وصلاح شحادة، وإسماعيل هنية، وعشرات آخرون ممن يعتبروا من طبقة القيادات الميدانية والسياسية العليا، ومع ذلك لم تتوقف ولم تتأثر مسيرة الجهاد عند حماس، ولم يختلف الأمر عند قوى الجهاد والمقاومة الأخرى التي أصابها من العدو الكثير مما أصاب حماس.
مقاومة الاحتلال لا تتوقف، هذا قانون، لكن المحتل لا يفقه مثل هذا القوانين، ولا يفقه معنى المقاومة، وهو أعجز عن فهم معنى “الجهاد”، وكيف أن المجاهدين يسابق بعضهم بعضا على هذا الطريق، وكيف أن اليقين فيهم مستقرٌ بأن كل شهيد هو ركن ركين في النصر المرتقب، وأن ارتقاءه في طريق الشهادة نصر لشخصه، وسبيل لنصر قادم لأمته. واستقر في عقل وضمير هؤلاء الرجال أن الله وعدهم إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة، وكلتاهما نصر.
للشهيد البطل “يحيى السنوار” نقول فزت ورب الكعبة، ولرفاقه ومن مشى على دربه نقول: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون بإذن الله، وللمنافقين والخائرين نقول، لا عزاء لكم، مصيركم أمامكم، وهو يوم قريب بأكثر مما تتصورون، ويومها حساب وجزاء، ويومها تقول جهنم هل من مزيد.