معين الطاهر
استشهد قائد حركة حماس في قطاع غزّة ورئيس مكتبها السياسي، يحيى السنوار، بعد استشهاد رئيسها السابق إسماعيل هنيّة في طهران، وكأنّ قرار تنصيبه في حينها يتلخّص في القول إنّ من خطّط لعملية طوفان الأقصى ونفّذها، في 7 أكتوبر (2023)، وفاجأ بها القريب قبل البعيد، والصديق قبل العدو، ومن قاد المقاومة الأسطورية في غزّة أكثر من عام، عليه أن يكمل قيادة المشهد حتّى نهاية حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها العدو الصهيوني.
جاء استشهاد أبو إبراهيم استكمالاً للصورة ذاتها التي رُسِمت في اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى، حين تسمّر الملايين أمام شاشات التلفاز وهم يشاهدون بأعينهم عمليةً عسكريةً تشبه أفلام الخيال العلمي، ويشاهدون انهيار الدفاعات الإسرائيلية، وهزيمة فرقة غزّة، خلال ساعات قليلة، وتوّجت في لحظة استشهاده، التي لا تقل أهمية وبريقاً عن الصورة الأولى التي رسمها “الطوفان” والمقاومة الممتدة، ليدحض كلّ حديث عن اختبائه خلف الرهائن، أو مفاوضات تُرتَّب لخروجه من غزّة، التي نشأ فيها قائداً شجاعاً، ومقاتلاً مشتبكاً، حتّى اللحظة الأخيرة من مساره النضالي الممتدّ، لتكتمل صورة نمط استثنائي من القيادات التي لا تحيد عن مبادئها وأهدافها، على الرغم من رحيله قبل أن تتوقّف حرب الإبادة الجماعية، التي امتدّت خارج غزّة وفلسطين لتشمل لبنان، وتهدّد بحرب إقليمية، لتتباين التقديرات حول مرحلة ما بعد السنوار، وتتباعد في رؤاها ونتائجها.
لن يكون اليوم التالي لما بعد السنوار وقف الحرب، فهي معركة وجود لنتنياهو وللشعب الفلسطيني
الولايات المتّحدة والمعسكر الغربي روّجا كذبةً صدّقاها، مفادها أنّ مقتل السنوار سيمهّد الطريق لإطلاق سراح الأسرى المُحتجَزين لدى المقاومة، وفاتهم أنّ استشهاد السنوار زاد الأمرَ تعقيداً وصعوبةً، فهو الذي كان يمسك خيوط مسألة الأسرى كلّها، ويتابع بالتفصيل مفاوضاتها التي كانت تتوقّف حين يتعذّر الاتصال به، وخلال وجوده كانت المقاومة تطلب أيّاماً بعد تنفيذ وقف إطلاق النار، لتتمكّن من جمع الأسرى من نقاط احتجازهم، وربّما لمعرفة مصيرهم، وما إذا كان بعضهم قد قُتل في القصف الصهيوني المستمرّ، أم ما زال حيّاً، فكيف يكون الحال بعد استشهاد السنوار؟ وما هي ردَّة فعل إخوانه الذين يحتجزون من تبقّى من الأسرى، أحياءً أو جثامين، خصوصاً أنّ ثمّة تعليمات أعلنها الناطق العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسّام (أبو عبيدة)، أفادت بأنّ حياة الأسرى معرّضة للخطر، إذا ما اقترب الجيش الإسرائيلي من النقاط التي يُحتجزون فيها، سعياً وراء حرمان العدو من ادّعاء قدرته على تحرير أسراه؟
سيعقد استشهاد السنوار مسألة إطلاق سراح هؤلاء، بل قد يجعل حياتهم في مهبّ الريح، وقد تختفي آثار بعضهم إلى الأبد، كما حدث مع رون أراد في الاجتياج الإسرائيلي للبنان عام 1982. ولعلّ ما رافق الدعاية الغربية والإسرائيلية عن فتح نافذة في هذا الملفّ لا يتعدّى محاولةً لامتصاص النقمة المشتعلة في صدور ذويهم، وتحميل السنوار مسألة عدم تنفيذ الصفقة. لم تصمد هذه الكذبة، ولذا لاحظنا تراجعاً في التصريحات عن عودة نشاط مباحثات وقف إطلاق النار وصفقة الأسرى، وتأجيل ذلك كلّه إلى ما بعد تحقيق وقفٍ لإطلاق النار في الجبهة اللبنانية.
راجت تحليلات منذ بداية حرب الإبادة الجماعية تُرجِع استمرارها إلى عجز رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، عن إيجاد صورة نصر تسمح له بوقفها، والاستمرار في حياته السياسية، أو التمتّع بتقاعد مريح، بعيداً من محاكمة تنتظره، وسجن يهدّده. ويعتقد هؤلاء أنّ تلك الصورة قد اكتملت بعد استشهاد قائد “القسّام”، الذي جاء بعد سلسلة ضربات متلاحقة طاولت حزب الله، من هجمات أجهزة البيجر والووكي توكي، إلى استشهاد أمينه العام حسن نصر الله وعدة قادةٍ في الحزب. ولذلك يميلون إلى أنّ وقف الحرب قد أصبح حالياً في متناول اليد. لا ينطلق هذا الرأي من أرضية صلبة، فاستمرار الحرب وامتدادها لا يتعلّقان بمستقبل نتنياهو الشخصي، وإنّما برؤيته السياسية، والتحوّلات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي المتّحد حولها، هي حرب وجود واستقلال ثانية كما يصفها، وبآخر تعبيراته هي حرب “انبعاث”، أيْ إنّ الكيان الصهيوني يُبعث من جديد على يديه، متّهماً الجيل الأول الذي بنى الدولة بالعجز عن إكمال مهمّته التي سيستكملها “ملك إسرائيل” بنيامين نتنياهو عبر تغيير خريطة الشرق الأوسط. أمّا صورة النصر المُتوهَّمة، فهي لا تعدو خطواتٍ في هذا الطريق، تعزّز من نظرته ورؤيته، وتجعله يستمرّ في هذه الحرب إلى أبعد مدى.
استشهاد السنوار سيعقّد مسألة إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين، بل قد تختفي آثار بعضهم إلى الأبد، كما رون أراد
لن يكون اليوم التالي لما بعد استشهاد السنوار وقف الحرب، لا من جهة نتنياهو ولا من جهة الشعب الفلسطيني، فهي معركة وجود للطرفَين، وما هو ثابت فيها، ويُسجَّل لـ”طوفان الأقصى” بقيادة أبو إبراهيم، أنّه أعاد إحياء القضية الفلسطينية. نتنياهو ماضٍ في خطته، والشعب الفلسطيني مستمرّ في صموده على أرضه وتمسّكه بروايته، وفي مقاومته بجميع الأشكال المتاحة له، قد نتقدّم أو نتراجع، فالحرب كرّ وفرّ، وقد تتغيّر القيادات، وتتعدّد وسائل النضال وأشكاله، أمّا الهدف فيبقى ثابتاً. ستبقى المقاومة في غزّة تخوض حربَ استنزافٍ طويلةً ضدّ الاحتلال، ما دام الاحتلال مستمرّاً، وهي قادرة على إعادة رصّ صفوفها، وبناء قدراتها، وتجديد قياداتها، بما يتناسب مع الظروف المحيطة. والتغيير الذي قد ينجم عن استشهاد أو اغتيال أو تغيير قيادة ما، في أيّ جسم سياسي أو عسكري، أو حتّى في الدول، لا يأتي نتيجةَ غياب الأشخاص في مواقعهم القيادية، بل ينتج من تغيّر في ما تُدعى البنية العميقة، وهو تغيّر ناجم عن اختلاف في موازين القوى والمعادلات السياسية والعسكرية وغيرها، وما نلاحظه في السطح هو اختلاف الأسماء، كما حدث بعد غياب ياسر عرفات وجمال عبد الناصر ويوري أندروبوف، فهذه الصورة التي تظهر للعيان، أمّا الواقع فيشير إلى تحوّلات عميقة في خلفيتها.
شكّلت معركة طوفان الأقصى، بقيادة يحيى السنوار، منعطفاً عميقاً، وتحولاً كبيراً في القضية الفلسطينية، ونفضت الغبار الذي غطّاها منذ نهاية الانتفاضة الثانية (2000)، وسيكون لها ما بعدها في حياة الشعب الفلسطينيى ومستقبله، واستشهاد السنوار مدماك إضافي في طريق حرّيته. ليس مهمّاً من يخلف السنوار، وكيف ستعيد “حماس” تنظيم صفوفها، بقدر أهمّية الانتباه إلى استخلاص الدروس وتقييم التجربة، وتحديد الأولويات في المرحلة المقبلة، والسير باتجاه الوحدة الوطنية، وإعادة بناء منظّمة التحرير الفلسطينية، وإغاثة الأهل في قطاع غزّة، والانتباه إلى معركة الضفّة الغربية والقدس، ومواجهة التطبيع العربي الذي نجح “الطوفان” في إعاقته، والانتباه إلى عدم التورّط والانجرار خلف المخطّطات الأميركية، وبعض النظام العربي، للتساوق مع المخطّط الإسرائيلي لإقامة إدارة محلّية تحت الاحتلال في قطاع غزّة، لن تلبث أن تمتدّ لتشكّل نموذجاً يمكن تطبيقه في الضفّة أيضاً.
أعاد السنوار القضية الفلسطينية إلى واجهة الحدث، وبعد السنوار علينا جميعاً أن نبقيها فيها، ونتقدّم أكثر في طريق الحرّية.