يجري الحديث كثيرًا هذه الأيام عن الحل العَلماني للواقع السوري، ضمن حالة التشظي والضياع التي يعيشها المجتمع السوري برمته. ويذهب البعض الى أن لا حل للحالة السورية المجتمعية، والسياسية بدون الحل العَلماني، كما أن أصحاب الحل والمخرج العَلماني مازالوا منقسمين بشأن طبيعة وماهية هذا المآل، من منطلق الفهم المختلف للمسألة العَلمانية، التي تتعدد مساراتها، وتتمايز طرق استيعابها بين هذا التيار وذاك، كما أن الكثيرين مازالوا يعتبرونها كفرًا بواحًا وفق مرجعياتهم التي يتكئون عليها. جيرون أرادت أن تتوقف مع مجموعة من الباحثين السورين لترى معهم فوائد العَلمانية لنا كسوريين مستقبلاً على المستويين الاجتماعي والسياسي؟
الباحث السوري جاد الكريم جباعي تحدث لجيرون بقوله ” لم تكن سورية دولة عَلمانية، منذ عام 1958 ولا سيما دولة البعث، فقد انطوت راية العَلمانية مع اغتيال جنين الدولة الوطنية (الجمهورية السورية)، إذ العقيدة القومية العربية ليست عَلمانية، على غرار الرابطة القومية التي حلت في الغرب محل الرابطة الدينية وأثمرت الدولة الليبرالية التي يتساوى مواطنوها كافة أمام القانون. والحلول المطروحة لسورية (من غير السوريين) ليست عَلمانية بالضرورة.
أعتقد أن هناك ثلاث قوى سورية ستحدد مستقبل سوريا الوطني: تنظيمات المجتمع المدني، والقطاع الخاص، والأحزاب السياسية الحديثة، والنخب الثقافية والسياسية ضمنًا، لم نجعلها قوة رابعة، لأنها ليست قوة في ذاتها، بالنظر إلى موقع السياسة والثقافة في المجتمع اليوم. لكن من شأن القوى الثلاث المذكورة أن تنتج نخبًا جديدة” لكنه وحول الفوائد قال” العَلمانية، في ذاتها، لا مفيدة ولا ضارة، لا هي داء، ولا هي علاج، هي سيرورة تطور ونمو لا تخضع لإرادة فرد أو حزب أو فئة بعينها. الفاعلون الاجتماعيون والسياسيون هم من يجعلونها مفيدة أو ضارة. ولكي نخرج من دائرة السجال حول العَلمانية، سورية تحتاج إلى عقد اجتماعي يعترف فيه الجميع بحقوق الجميع وحرياتهم، أي إنها تحتاج إلى عقد يقوم على مبدأ المواطنة المتساوية. وهذا في اعتقادي بعيد المنال، لأن التشظي الاجتماعي، الذي أشرتم إليه، سيحول دون ذلك ربما إلى وقت غير قصير. ولما كنت أعتقد أن العَلمانية مقدمة ضرورية للديمقراطية، عندنا وعند غيرنا، أقول إن الديمقراطية في سورية بعيدة المنال، خاصة أن السوريين خارج دائرة الفعل. ولكني أعتقد أن عملية التفكك الاجتماعي الظاهرة، تقابلها عملية تشكل خافية إلى هذا الحد أو ذاك، هذه العملية التي لا يمكن أن يقوم بها غير السوريين، هي التي ستحدد، إذا ما كانت العَلمانية مفيدة أم لا. وبومة منيرفا لا تطير إلا في الظلام.”
الدكتور عبد الله تركماني الباحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة قال ” العَلمانية ليست فقط بمعنى فصل الدين عن الدولة كما هو شائع لدى الكثيرين، بل كان الارتباط الأوثق بين العَلمانية والدولة الوطنية، حين انبثقت من ثقافة ديمقراطية وصراع في سبيل التقدم وكرامة الإنسان، وجاءت بمثابة تأكيد على قدرته على تنظيم شؤونه تنظيمًا عقلانيًا. لذا فالمبدأ الأساسي في العَلمنة يؤكد أنّ الدين أمر شخصي، وينبغي، بالتالي، فصله عن الدولة والمدرسة والأحوال الشخصية، وباعتبار الدولة العَلمانية ضمانة الوحدة الوطنية، بحكم قدرتها على تجاوز الانقسامات الاجتماعية التي تنخر الجسم السياسي، ومن ثم قدرتها على التعبير عن المصلحة العامة، فإننا في سورية أحوج ما نكون إلى العَلمانية، التي تضمن حرية المعتقد والحقوق المتساوية للمواطنين السوريين بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو المذهب أو القومية.
الباحث السوري حمزة رستناوي أكد من جهته أن ” العلمانية (التي أقصدها) هي فصل السياسي عن الديني، بما يضمن حياديّة الدولة تجاه عقائد مواطنيها، ضرورية فهي من مُستلزمات العدل ودولة المواطنة المتساوية، وما يتمّ الواجب به فهو واجب. من الضروري الخروج من التباس (وربما تضليل) مفهوم الدولة المدنية، والتصريح بعَلمانية ديمقراطية الدولة السورية مستقبلًا، ليس كرها أو عداء للإسلام كما يظنّ البعض، بل لضمان وحدة الشعب وانتاج حياة سياسية تؤسس لوطنية سورية مازالت هشّة ومخترقة بالانتماءات الفئوية الطائفية، وأيضًا العَلمانية ضرورية لحماية الاسلاميين أنفسهم من غبائهم وشرور أنفسهم، والاسلام (كأي دين آخر) يزدهر في مناخ الحرية وليس القمع!”. ثم تحدث عن فوائد العَلمانية للسوريين مشيرًا إلى أنها
” أولًا تجاوز الشرخ الهوياتي السوري، خاصة الشرخ العلوي/ السنّي أو الشيعي / السنّي، أو حتّى ضمن الفئوية السنّية نفسها بين المتديّنين طقوسيًا وغير المتدينين! بما يسهم في التأسيس لهوية وطنية سورية جامعة. ثانيًا عزل سورية عن سياسات المحاور، بحيث يتفرّغ السوريون لمشروعهم الوطني الخاص، بعيدًا عن كونهم أدوات في الصراع لصالح قوى إقليمية مؤدلجة سنّيًا أو شيعيًا. ثالثًا عدم وجود بدائل حقيقية حيوية عن سورية ديمقراطية عَلمانية، فالبدائل تتراوح ما بين العودة إلى نظام استبدادي متوحّش، أو حرب أهلية باردة أو ساخنة، أو دولة فاشلة، دولة محاصصة طائفية هشّة كما هو حال العراق ولبنان المجاور، ولذلك فرغم الصعوبات التي تعيق الخطاب العَلماني الديمقراطي، لكنّه يبقى البديل الوحيد الذي يستحق أن نحلم ونكافح من أجله إذا أردنا لأنفسنا وأولادنا أن يعيشوا في وطن كريم.”. ثم أضاف قائلًا ” إنّ تغليب الديمقراطية وإهمال العَلمانية هو بمثابة جهل سياسي، أو حيلة تستخدمها قوى طائفية سنّية للوصول إلى السلطة وإقامة نموذج ثيوقراطي ديني أو أوتوقراطي استبدادي قاصر للحكم. وبالمقابل تغليب العَلمانية وإهمال الديمقراطية وحقوق الانسان هو بمثابة جهل سياسي، أو حيلة تستخدمها قوى طائفية أقلّوية علوية (أو مسيحية أو درزية أو اسماعيلية أو إلحادية) لإقامة نموذج أوتوقراطي استبدادي، يؤجّل أو يعيد انتاج الصراعات الفئوية في المجتمع والدولة”.
أما الكاتب والمعارض السوري منصور الأتاسي فقال ” إننا نتجه نحو حل وطني للواقع السوري المتشظي للمجتمع السوري، والذي ساهم فيه النظام وفصائل الإسلام السياسي، وكل منهما لعب دوره بنجاح في محاولاته تفكيك المجتمع ليسهل السيطرة عليه، وليؤسس لصراع طائفي مذهبي يتناقض مع أهداف الثورة في تحقيق الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية
ولا يوجد في سورية تنظيم اسمه تنظيم العَلمانيون له برنامجه الواضح وقيادته، لذلك يمكن أن نؤكد أن العَلمانية هي نهج في الحكم وطريقة إدارة الدولة. جوهرها تنفيذ مبدأ فصل الدين عن الدولة، وهذا المبدأ يحقق المساواة التامة بين المواطنين، والعلمانية بهذا المعنى تتناقض مع مفهوم الدولة الدينية (القرآن دستورنا) أو مع مفهوم الدولة القومية التي تسيطر فيها قومية على باقي القوميات، والعلمانية بهذا المعنى تحقق دولة المواطنة المتساوية، ولا ترفض تعاليم دينية على أتباع الديانات الأخرى أو مفاهيم القومية الكبرى على القوميات الأخرى، وقد عانى شعبنا الكثير من سيطرة هذه المفاهيم خلال الفترة الماضية، من اضطهاد الأقليات القومية ثم الأكثرية الدينية نتيجة تجاهل مبدأ الدولة العلمانية “. ويرى الأتاسي أن ” مفهوم الدولة العَلمانية تحول إلى شعار الدين لله والوطن للجميع، وقد أعلن هذا الشعار الزعيم المصري سعد زغلول عام ١٩١٩ أي قبل حوالي القرن، وسعد زغلول هو خريج الأزهر ورئيس وزراء مصري، وكما ذكر الدكتور سمير قصير في كتابه “تاريخ بيروت” أن صحيفة (نفير سورية) التي أصدرها بطرس البستاني رائد الوطنية العربية السورية عام 1860 كان شعارها المطبوع في أعلى الصحيفة (الدين لله والوطن للجميع).
كما أن هذه العبارة كانت شعار سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي عام 1925، والتي اجتمع عليها الثوار من مختلف المناطق السورية ومن جميع الطوائف. مما يؤكد أن شعار العَلمانية متداول منذ أكثر من قرن، وهي جزء من الثقافة الوطنية لشعوبنا. وتؤكد التجربة التركية الحالية إن الدولة العلمانية تضمن حرية ونشاط كافة القوى السياسية وتحقيق المساواة التامة بين جميع الأحزاب.. حيث لا يبقى حزب قائد بقوة السلاح وبقوة القمع، هذا إذا اقترن مفهوم الدولة العَلمانية بنظام ديمقراطي مدني أي لا عسكري، حيث يخبرنا التاريخ أن الكثير من العَلمانيين كانوا مستبدين وقتلة. وشعار فصل الدين عن الدولة يحقق المساواة إذا ترافق مع بناء الدولة المدنية الديمقراطية”
ويضيف الأتاسي ” لقد عانى شعبنا الكثير من الاضطهاد والقمع في ظل سيادة دولة الحزب الواحد أو سيادة التيار القومي المتشدد، وأيضًا جرب شعبنا شكل الدولة الاسلامية في العراق والشام، أو الأمارة الإسلامية في ادلب، أو محاولة احتكار الاخوان وهيمنتهم على الثورة مما أدى إلى إرباكها وتقديم تضحيات كبيرة. ولم يبق أمامنا سوى تنفيذ الشعار التاريخي (الدين لله والوطن للجميع) ضمن دولة ديمقراطية لنحقق العدالة والمساواة بين جميع السوريين ونتجاوز الصراعات القاتلة التي أربكت شعبنا ومزقت وحدته الوطنية”.
المصدر: جيرون