باسل .ف.صالح
مؤسف أن نستمع لعزف الفتاة جوليا علي على آلة البيانو خاصتها، بالترافق مع متابعة الأخبار التي تتكلّم عن حجم الدمار الذي طاول منزل أهلها وقريتهم الخيام، كما منازل وقرى غيرهم في بلدات الجنوب اللبناني، وذلك في مقابل فيديو آخر يوثّق وجود جنود العدوّ على الكرسي، وفي المكان نفسه الذي كانت تجلس فيه جوليا خلال عزفها. مؤسفٌ أن نعرف، وأن نشاهد تلك الموهبة، وأن نستمع لتلك الموسيقى، ليس في الزمان العادي، ليس في الزمان الروتيني لمحاولة الفوز بيوميات عيشنا خلال رحلة تفادي العوَز، علّها تخفّف عنّا مشقّةَ تلك الطريق، بل أن نشاهده في زمن الحرب والمحاولات المستمرّة للهرب والنجاة من أهوالها ومن تحذيرات العدوّ المستمرّة.
المؤسف أكثر بعض ما قيل بشكل مضمر في هذه الرواية كلّها، ذلك المضمر المبني على انزلاق نحو تنميط يحكم منطقَ بعض الكلام من خلف القصّة، لا سيّما حين أصبحت آلة البيانو، وحين أصبح المنزل الجميل، وبقدرة قادر، مجموعَ دلالات على القبول، مجموع دلالاتٍ على الفوز بمعايير الإنسانية والحقّ والخير والجمال، والتوقّف عندها للقول إن ما تقوم إسرائيل به محض إجرام وتوحّش وبشاعة لأنه ضدّ الجمال، وليس لأنهما توحّش وبشاعة قائمان بذاتهما من دون الحاجة إلى أيّ مقارنة. وكأنّ الناس العاديين، ممّن لا يمتلكون الموهبة، ولا يمتلكون منزلاً فارهاً وجميلاً ومكلفاً، ولا يمتلكون آلةً موسيقية يعزفون عليها بمهارة، لا يمتلكون معايير القبول في عالم اليوم، ويصحّ فيهم ما يحدُث لهم، وأن منازلهم، ومقتنياتهم، وستائرهم، وأرضياتهم غير البرّاقة، وبقايا أشيائهم، لا تستحقّ أيّ نوع من الاعتراف في منصّة المعايير والنجاة السائدة.
قد يكون التركيز في منزل تلك الفتاة في الأساس، وفي ذلك الفيديو بالتحديد، متأتّياً من محاولة بريئة لتوثيق العزف بمهارة وانسيابية، وقد تكون نابعةً من محض محاولة إبراز ذلك التناقض الصارخ بين الوحشية المطلقة والجمال المطلق، وقد تكون المحاولة بأكملها مُجرَّد طريقة للتمييز الواضح بين حالتَين تتناقضان بشكل عيني، خصوصاً عندما تكون حالات واضحة لا لبس فيها، ولا يحتاج الإنسان إلى بذل أيّ جهدٍ عميقٍ ومضنٍ للبتّ في شأنها. إلّا أن هذه الحالة، وتلك المقاربة، هما بالتحديد ما لا يُفترض القياس عليهما بقدر ما يتوجّب الابتعاد عنهما خلال الكلام عن الحقّ بالعيش والحياة في هذا الكوكب، فهل يحقّ للبناني عموماً، والجنوبي أو البقاعي خصوصاً، العيش باختلافاته ومعاييره وقيمه كلّها؟ هل يحقّ له، ولمنزله، أن ينجو من المجزرة، ولو من دون موهبة، ولو لم يكن منزله “جميلاً”، ولو كان يمتلك آلةَ “الدربكّة” أو “المنجيرة” أو “المجوز” مثلاً، تلك الآلات التي ترتبط بالتراث اللبناني وبحياة الإنسان الجنوبي وأعراسه وأفراحه وأتراحه؟ وهل يحقّ له البقاء والعيش من دون أن يحوز معايير القبول في عالم “التحضّر” الموحش هذا؟
أصبحت آلة البيانو مجموع دلالات على القبول، مجموع دلالاتٍ على الفوز بمعايير الإنسانية والحقّ والخير والجمال
كان لافتاً أن بعض التعليقات حاولت أن تبني على الفيديو نفسه سرديةً انزلق فيها بعضهم نحو التمييز بين “الحضارة” من ناحية ما يمثّله “بيانو” جوليا، والتوحّش والإجرام في ما يمثّله جنود العدو وأسلحتهم وعتادهم، وكمية الدمار الذي خلّفوه من ناحية ثانية، معتبرةً الفيديو صورةً واضحةً وصريحةً ومباشرةً لـ”المدنية” و”التحضّر”، منطلقةً من هذا المعيار لتشكّل تمييزاً آخرَ يتأسّس على رفض فكرة التعميم التي يتلطّى بعضهم خلفها ليطاول جميع الجنوبيين، محاولين القول إن هؤلاء لا ينضوون بأكملهم في حزب الله، وأن ليس آباء الجنوبيين وإخوتهم وأخواتهم ينتمون كلّهم إلى الحزب، وأن كثيرين منهم لا يستفيدون منه ولا يشغلون مناصبَ قيادية أو غيرها فيه… إلخ. وبالتالي يحقّ لهم العيش حتى في معايير توحّش العدو ذاتها، بما يوحي وكأنّ “التحضّر” و”التمدّن” انحصرا في العزف على آلة، وكلّ من لا يعرفها أو يعزف عليها غير متحضّر. وكأن كلّ من ينتمي إلى حزب الله على نقيض “الحضارة”، وأكثر اقتراباً من “الهمجية”، إذ من المفترض التطابق مع لائحة المعايير العقلانية العامّة لعالم اليوم، وصلافتها، وفلسفاتها، وجمالياتها، وأخلاقياتها، وسلوكياتها، وأدواتها، وآلاتها، ومواهبها، لكي يكون الإنسان “حضارياً” بشكلٍ لا خلاف بشأنه، بشكلٍ لا يستدعي معايشة أشكال الموت والدمار هذين كلّها (!).
قد تكون هذه التفاصيل مُجرَّد محاولات لإعلان التمايز التامّ عن حزب الله، خصوصاً عندما تصدر من مواطنين جنوبيين. قد تكون محاولةً للتذكير والالتصاق بنمط الحياة والثقافة الجنوبية، التي لم يتوانَ الحزب عن تقويضها بغرض ترسيخ نمطٍ بديل من القيم الاجتماعية والتاريخية والثقافية التي كانت سائدة في الجنوب اللبناني. إلّا أنها محاولاتٌ تعكس انزلاقاً فوقياً يعزّز منطق الحزب أكثر ممّا يُحرجه، تعزّزه في حين أن الغاية من خلفه هي محاولة تسجيل الانتصار السياسي عليه. بل يمكن القول إنها محاولاتٌ تكاد تكون دعايةً مجّانيةً للحزب، من دون الانتباه إلى أنها لم تُؤسِّس في مدى العقود الماضية إلّا أرضيةً صلبةً للحزب، أرضية ساعدته على تقوية عوده أكثر بكثير ممّا عملت على إضعافه سياسياً.
المصدر: العربي الجديد