مهند ذويب
نشرت صفحاتٌ تابعة للمستوطنين، في نوفمبر/ تشرين الثاني العام الماضي (2023) خرائِطَ للمنطقة بعدَ الحرب التي كانت دخلت شهرها الثّاني على قطاع غزّة، وضمّت خرائطُ ما سمّيت “مملكة إسرائيل” الضفّةَ الغربيّة كلّها وأجزاء من الأردن، إضافة إلى غزّة وأجزاء إضافيّة من لبنان وسورية. وأرفقت الخرائطُ بدعوةِ الفلسطينيين للمُسارعة بالهجرة قبلَ التّهجير القسريّ، وحدّدت لهم الأماكنَ التي سوف يُهجّرون إليها.
وفي سبتمبر/ أيلول الماضي (2024)، وأمام الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، وبعد رسائله وعتاباته، وبعد “نوستالجيا” رفضه انسحاب شارون من محور فيلادلفي عامَ 2005، وفي فقرة تحليل الخرائط، عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، خريطة ظهرت فيها الضفّة الغربيّة (دولة الفلسطينيين الموعودة) بلون الأراضي التي احتلّت عام 1948، وتشكّل الآن أراضي “دولة إسرائيل” حسبَ “الشرعيّة الدوليّة”. وعشرات الدلائل والإشارات السابقة عن مخطّطات الاحتلال، ابتداءً من مقترح غيورا آيلاند في السبعينات إلى آراء نتنياهو الواضحة عن “حلّ الدولتين” و”الأرض مقابل السّلام”.
وللحقِّ، لدولة الاحتلال عجيبُ القصص مع الخرائط، فمن خرائط “النيل إلى الفرات”، ومن خرائط “الإخلاء والمناطق الآمنة”، و”خريطة الطريق”، وخرائط “ما بعد الحرب” التي تفاوض فيها نتنياهو مع نفسه، ووافق عليها هو والأميركيون، إلى أخطاء الخرائط الدولية كـ”الخطأ” في خريطة المغرب المعلّقة في مكتبه، والذي تكرّر مرّتين، إلى حديثٍ قديم قاله لي سياسيٌّ فلسطينيٌّ، في لحظة صفاء، واصفاً حال وفود التفاوض الفلسطينيّة، وهي ذاهبة إلى مدريد ثمّ أوسلو وكامب ديفيد و…، بالقول.. “لقد جاء الإسرائيليون بخرائط تفصيليّة لكلّ شيء، حتى لينابيع الماء في كامل الجغرافيا الفلسطينيّة، وكنّا نذهب بأيدينا الفارغة”.
إذن؛ ليس الأمرُ جديداً، وما إعلانُ الوزير سموتريتش عن إصدارِ تعليماته بالتجهيز لـ”فرض السّيادة الإسرائيليّة على الضّفة الغربيّة” إلّا تتويجٌ لمخطّط جرى تنفيذه على مدار سنواتٍ بالتدريج عبرَ زيادة الاستيطان ومصادرة الأراضي وتقسيم الضفّة الغربيّة إلى “كانتونات” معزولة تغلق ببوابات، كما أنّه جاءَ متزامناً مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وتعيينِهِ مستثمراً عقارياً لتدبير شؤون “البيع والشّراء” في الشّرق الأوسط، إضافة إلى تعييناته وترشيحاته الأخرى.
إنْ كانَت المقاومة المسلّحة، برأي بعضهم، أدّت إلى إعادة احتلال قطاع غزّة واستشهاد آلاف الفلسطينيين، فإنّ البرنامج المُقابل لها أدّى إلى خساراتٍ بالتدريج للأرض والإنسان
أكتُبُ هذا اليوم لأقول إنّ أيّ خطوةٍ ستقوم بها دولة الاحتلال الإسرائيليّ في الضّفة الغربيّة لا ترتبطُ بشكلٍ مباشرٍ بنتائج 7 أكتوبر (2023)، كما يروّج بعضهم، بل هي سلسلة من المُخطّطات التي جرى تنفيذها جغرافياً على الأرض في الفترة الطويلة من سياسة استجداء المنظّمات الأمميّة، والبحث عن دولةٍ على الورق قبل الجغرافيا، وهي تستندُ إلى الأهداف التوسعيّة، و”ونبوءات إشعيا” التّوراتيّة، وأيضاً للظرف المواتي، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، للمضيِّ في الإبادة والتّوسع والتّهجير والضّم، أمام حالة “الفُرجة” المريحة على دم الفلسطينيين. وإنْ كانَت المقاومة المسلّحة، برأي بعضهم، أدّت إلى إعادة احتلال قطاع غزّة واستشهاد آلاف الفلسطينيين، فإنّ البرنامج المُقابل لها أدّى إلى خساراتٍ بالتدريج للأرض والإنسان، وفي المحصِّلة (كمصارحةٍ قاسية) فإنّ الفلسطينيين أمام خساراتٍ عميقة ووجوديّة.
يقودني الحديثُ عن الخرائط، دائماً، إلى تذكّر الحديث عن “الأخطاء”؛ فثمّة تاريخ طويل من الأخطاء الإسرائيليّة؛ في الفيلم المصري “سيّد العاطفي” (2005)، تقول الفنانة المصريّة القديرة عبلة كامل، وهي تقود سيّارة الأجرة التي تعملُ عليها: “دَانا كنتِ نايمة وقالولي إصْحِي إنتِ بْقيتي مرات شَهيد، قلت لهم: اللهَ!، شهيد إزّاي؟ هوا إحنا مش بالسّلام… قالولي معلش أصْل إسرائيل غلطِتْ وامسَحيها فينا المَرّادِيْ … مسحتها”. وفي الانتفاضة الثانية، قال جيش الاحتلال الإسرائيليّ إنّ جنوده لا يتعمّدونَ قتل الفلسطينيين، وإنّ عمليات القتل تحدثُ خطأً، وأنّ جنوده يطلقونَ النّار على الأرجل فقط. إحدى الصحافيّات (أظنّها بريطانيّة) كانت تغطّي أحداث الانتفاضة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، بدأت تقريرها: “يبدو أنّ الفلسطينيين يسيرونَ على رؤوسهم”، في استهزاء بالتّصريح الإسرائيليّ الذي يقول إنّ جنوده يطلقونَ النّار على الأرجل، مقابل ما رأته من أنّ أغلب الشّهداء قُتلوا برصاصات في رؤوسهم.
ومنذُ أنْ مَسَحتْها عبلة كامل، ومنذُ أنْ لمْ يسِر الفلسطينيونَ على رؤوسهم، وقبلَ ذلك وبعده، و”الأخطاءُ” الإسرائيليّة تتوالى، في الخرائط، وفي قتل عشرات آلاف الفلسطينيين المدنيين، وفي قصف المستشفيات في غزّة ولبنان، وفي عرض خرائط من النّيل إلى الفُرات، وفي قصف الحدود المصريّة، وفي اغتيال شيرين أبو عاقلة، وفي استحضار دمويّة التّوراة نصّاً مؤسّساً لاستحلالِ دم الأغيار، وفي دخولِ شمشون الجديد معبَدَ غزّة، و(…)، وما بين الخرائِط والأخطاء والخساراتِ والعَقارات، يقعُ “حل الدّولتين”، المدفون بالإجماع، ويدخل الفلسطينيون إلى التيه الجديد غير واضح المعالم.
المصدر: العربي الجديد