سامر خير أحمد
لا يملك زائر متحف المجاهد في العاصمة الجزائرية، الذي يروي قصة الثورة على المستعمر الفرنسي (1954 – 1962) وصولاً إلى تحرير البلاد وتحقيق الاستقلال، إلا ملاحظة المشتركات الكثيرة بين حرب التحرير الجزائرية ومعركة طوفان الأقصى الدائرة في فلسطين منذ 7 أكتوبر (2023). كانت تلك الملاحظة التي خرج بها كاتب هذه السطور من زيارة المتحف، أياماً بعد احتفال الجزائر بالذكرى السبعين لاندلاع الثورة في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. صحيحٌ أن الاختلافات بين الحالتين حاضرة أيضاً، إن من جهة الظروف المحلية أو الظروف الدولية، كذلك آفاق المحتل وبدائله، إلا أن روح الثورة واحدة، وكذلك أطرها العامة وكثيرٌ من تفاصيلها.
أبرز المشتركات التي يمكن ملاحظتها تَجَذُّر الاحتلال عشية الثورة، حتى ليظن الوطني الطامح بالتحرير أن طموحه ضرب من الخيال. هكذا وقع الفراغ في فكرة التصدّي للمحتل الفرنسي، عقب نفي الأمير عبد القادر في منتصف القرن التاسع عشر، ثم نجاح الاستعمار الفرنسي في القضاء على حركات المقاومة المحلية العديدة التي قامت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ونتيجة ذلك، تراكم الشكّ في فكرة الوطنية الجزائرية خلال العقود التالية، حتى شاع مبدأ القبول بالهوية الفرنسية عند منتصف القرن العشرين. لكن اندلاع الثورة في ذلك الوقت أعاد فكرة التحرير والاستقلال إلى الذين تشرّبوا فرنسة الجزائر، حتى ظنوها قدراً لا فكاك منه، وهو أمرٌ يذكّر بارتهان حركات فلسطينية رئيسية لفكرة التنازل عن الجزء الأكبر من فلسطين التاريخية لصالح الحركة الصهيونية، عقب ضعف الحركات الفدائية وتراجع المواجهة مع إسرائيل عشية اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، باعتبار فكرة تحرير فلسطين من البحر إلى النهر ضربا من الجنون، يتعارض مع الواقعية السياسية، وهو ما تجلى بتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993. ويمكننا اليوم القول إن معركة طوفان الأقصى أعادت إلى قطاعات واسعة من الفلسطينيين السائرين في ركب اتفاق أوسلو وتداعياته، القناعة بواقعية التمسّك بهدف تحرير كل فلسطين من البحر إلى النهر.
كادت فرنسا أن تُخمد الثورة الفرنسية، لكن الثورة عادت وتماسكت، وطردت المحتل الغاشم
هذا الإطار العام من التشابه بين سيرتي الثورتين؛ الجزائرية والفلسطينية، ينطوي أيضاً على تفاصيل تتعلق بوحشية المحتل وهمجيته، ومن ثم الفارق الكبير في أعداد القتلى والمصابين بين الاحتلال والمقاومين، ووقوع ضحايا من المدنيين لا حصر لهم بين أفراد الشعب المقاوم الواقع تحت الاحتلال. كذلك شعور المحتلّ بالإفلات من العقاب، وأن يده مطلقة في كل فعل غير إنساني من تنكيل وتجويع وحصار، فضلاً عن القتل بما توفر له من سلاح. وعلى صعيد موازٍ، تتماثل الثورتان في نجاحهما بإحداث انقسامات داخل الرأي العام العالمي المساند للاحتلال، ما يضعف الدعم المطلق لروايته وسرديته التي كانت قد مكنته من تجذير احتلاله.
وما يفضي إليه هذا التشابه بين الاحتلال الفرنسي الذي دام 132 عاماً والاحتلال الإسرائيلي الذي يتواصل منذ 76 عاماً، ومن غير الواضح إلى أي مدى زمني سيتواصل، أن ثمّة أسئلة تتعلق بالثورة الفلسطينية، يمكن استكشاف بعض إجاباتها لدى الثورة الجزائرية، ولو على سبيل الاسترشاد وأخذ العظة والعبرة والأمل.
يمسّ أول تلك الأسئلة عودة المسلّمين بقدرية الاحتلال للالتحاق بركب المتمسكين بالتحرير. كم من الفلسطينيين الذي اعترفوا بإسرائيل على أرضهم المحتلة عام 1948، سيراجعون أنفسهم؟ والأهم من ذلك، هل ستراجع الحركات الفلسطينية الكبرى، وعلى رأسها حركة فتح، تسليمها بالتنازل عن تلك الأرض الفلسطينية، وتعديلها -مع الفصائل الأخرى الموافقة على نهج السلام- ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية لجهة استبعاد الحديث عن عدم شرعية قيام إسرائيل؟ تجيب الثورة الجزائرية: سيحدُث ذلك على نطاق واسع، ما نجحت الثورة الفلسطينية في تحقيق نجاحات تحيي الأمل بفرض شروطها على الاحتلال. سيراجع الوطنيون الحقيقيون أنفسهم، وسيلتحقون بركب المتمسكين بأرضهم، كل أرضهم، وبأهداف شعبهم، وحقوقه التاريخية. الوطنيون الحقيقيون هم الذين وافقوا على نهج القبول بالمحتل لمّا ظنوا عدم وجود بدائل، ولحرصهم على تحقيق ما اعتقدوه مصالح ممكنة لشعبهم. أما غير الوطنيين الذين كانوا وافقوا على الارتهان للمحتل بحثاً عن مصالحهم ومكاسبهم، فلا مجال للتفكير برجوعهم، ولا حاجة للثورة بهم من حيث الأصل.
لا يمكن للاحتلال أن يستمرّ طالما ناضل الشعب المحتلة أرضه، وقدّم التضحيات من أجل التحرير والاستقلال
ثمّة سؤال آخر يتعلق بجدوى مقاومة المحتل ووقوع آلاف الضحايا من الشعب الفلسطيني، رغم ما يتوفّر للمحتل من آلة قتل لا رادع أخلاقي يهذّبها؟ والإجابة واضحة؛ إنه ثمنٌ لا مناص من دفعه، ولا تحرير من دونه، فلو جعل الثورة الجزائرية وغيرها من الثورات النبيلة ضد المحتل، تتراجع وتتوقف، لما تحرّرت أرض ولا استعيد استقلال، ولا بُنيت بلاد لشعبها.
أما السؤال الأهم، فهل تفلح الثورة رغم الفوارق الهائلة في الإمكانيات مع المحتل الغاشم؟ كادت الثورة الجزائرية أن تتحطم بعد نحو خمس سنوات من اندلاعها. كادت فرنسا أن تُخمدها حقاً، وإذن لدام الاحتلال الفرنسي عقوداً تالياً. ومن يعلم، ربما لم تكن الجزائر لتشهد الاستقلال. لكن الثورة، رغم الانكسارات، عادت وتماسكت، وطردت المحتل الغاشم خلال أربع سنوات لاحقة وحسب، لأن تلك سنّة التاريخ وضروراته: لا يمكن للاحتلال أن يستمرّ طالما ناضل الشعب المحتلة أرضه، وقدّم التضحيات من أجل التحرير والاستقلال. صاحب الحق يبقى أقوى من كل أسلحة الباطل وضلالاته.
أخيراً، عشية مغادرتي الجزائر، أعلمني الصديق الصحافي مروان الوناس، لمّا أخبرته بملاحظاتي عقب زيارة المتحف، أن الكاتب الجزائري عثمان لحياني أصدر كتاباً يقارن معركة طوفان الأقصى بالثورة الجزائرية. فاتني اقتناء الكتاب، لكنه ربما يقدّم للمهتمين بحثاً أكثر توسّعاً وتفصيلاً عن المسألة التي يطرحها هذا المقال.
المصدر: العربي الجديد