مالك داغستاني
إن الصورة النمطية الماسيّة (اشتقاقاً من الألماس) عن سوريا القادمة الديمقراطية والحرة والمدنية. سوريا بدستور عصري يراعي كافة المكوّنات، وتحكمها قوانين عادلة ومواطنة متساوية هو حلم مشروع، لكن للأسف ليس له حوامل على الأرض لا سياسياً ولا شعبياً. وعدا عن أنه يتجاهل آراء ومطالب ملحّة لعموم السوريين راهنة وآنية، فإن سوريا تلك لن تصح على الفور، حتى في المختبرات المعقّمة.
فهل نقبل ببقاء الأسد عقود أخرى، حتى تتبدل آراء السوريين وأفكارهم ومعتقداتهم، ونحصل على “سوريا البرلنت” التي نحلم بها؟ وليبقى النازح في خيمته في الشمال السوري، واللاجئ في بلدان الجوار في مخيمات الأردن ولبنان وتركيا، وملايين المهجرين إلى بلاد الله الواسعة في أوطانهم الجديدة، ومئات آلاف المعتقلين في السجون حتى يحين تحقيق الحلم بسوريا المتخيلة، التي ستنتقل بقفزة واحدة من “سوريا الأسد” بكل ما يحمله هذا الوصف من دلالات إجرامية، إلى “سويسرا الشرق”، كما كانت تلقّب لبنان قبل العهدين الأسدي والإيراني.
أقفل الأسد الأب، ومن بعده ابنه، القفل على سوريا ورمى المفتاح في البحر، ويقيناً أن سوريا الحلم لن تأتي قبل كسر هذا القفل، قفل الأبد. وحتى بعد كسره، وسقوط نظام الأسد الذي ما زال يسدّ كل أفق، فإن أمام السوريين دربا عسيرا جداً. راهن نظام الأسد دوماً على تقديم نفسه أمام المجتمع الدولي، أنه الأفضل بين جموع السيئين، فإما هو أو “الإرهابيين”. وبصفته تلك كان يبدو أمام العالم وكأنه يحمي سوريا من الأسوأ. واليوم يتماهى كثيرون، غالباً بنوايا نبيلة، مع ذاك الخطاب الإعلامي بمآلاته، ولو من مواقع مختلفة عن نظام الأسد.
قدمت الهيئة مع حلفائها ما يبدو أنه آخر تحديث، أو لنقل النسخة الأخيرة منها، وهي نسخة ونموذج مغاير تماماً عما كانت عليه، من حيث الشكل والمظهر، والتكتيكات العسكرية وحتى الخطاب المفاجئ عن سوريا القادمة.
في حين يرى آخرون، أن أي بديل يمتلك بعض العقلانية، ممكن أن يفتتح صيرورة جديدة في التاريخ السوري، بعد اقتلاع تلك الماكينة الإجرامية التي تجذرت (شرّشت) واختطفت سوريا رهينة، وقتلت مئات الآلاف وهجرت الملايين بموافقة دولية. فلا سوريا جديدة ولا حتى سوريا وطناً بحدود كما باقي دول العالم، دون كسر هذا الاستعصاء الذي تأبد لأكثر من نصف قرن مضى.
يتخوف كثيرون، وهم محقّون، من فصائل الإسلام السياسي. فهؤلاء لم يقدموا حتى اليوم أي نموذج مشرّف أينما حلّو. وكانت صورتهم الأكثر وحشية داعش، التي حاولت أن تنافس الأسد في بشاعة الجرائم، ومعه تنافس الإسلام السياسي بصورته الشيعية المستوردة عبر الحدود، الذي ارتكب مثلها الفظائع بحق السوريين، وكان يقاتل في صفوف الأسد ليحميه.
حاولت هيئة تحرير الشام، التي تسيطر على إدلب أن تقدم صورة جهادية مخففة في البدايات، لكن ممارساتها على الأرض لم تكن لتختلف عن ممارسة أي سلطة استبدادية ظلامية، تنتمي إلى عصور سابقة. مع الوقت، بدأت ببعض التغييرات، يعتبرها البعض وأنا منهم شكلية، وحاولت إقامة حكومة مدنية، تتبع لها بالطبع، لتساير القول بأنها يمكن أن تكون نواة دولة مدنية. حتماً لم تفلح بذلك، رغم أنها عاشت تحولات هائلة في السنوات الثلاث الأخيرة، مع إقصاء الرؤوس الإسلامية الحامية من المشهد.
مع بدء معارك السيطرة على ريف حلب الغربي، ثم وصولاً إلى المدينة، وإتمام السيطرة على كامل محافظة إدلب، لتصل لحظة كتابة هذه المادة إلى حدود مدينة حماة، قدمت الهيئة مع حلفائها ما يبدو أنه آخر تحديث، أو لنقل النسخة الأخيرة منها، وهي نسخة ونموذج مغاير تماماً عما كانت عليه، من حيث الشكل والمظهر، والتكتيكات العسكرية وحتى الخطاب المفاجئ عن سوريا القادمة. وحتى اللحظة ما زالت الممارسات بعمومها، خصوصاً في حلب المدينة، تدعو للارتياح، دون أن تخلو من بعض المشاهد المخزية.
ليس بدافع البحث عن أية نقيصة، بهدف المحافظة على ثبات رأيي عن فصائل الإسلام السياسي، ولكن لمنع تفشي ظواهر سيئة، حاولت التدقيق بتلك الممارسات. ما هو مطمئن أنها كانت محدودة جداً، وليس مفاجئاً في المواجهات العسكرية أن تحدث تلك الممارسات، ولو أن عدم حدوثها هي حالة مثالية منشودة، لكن المفروض، عرفاً وحتى في القانون الدولي ألا تكون ممارسات ممنهجة. هل أبدو كمن يدافع عن الخطأ بالقول إنها ممارسات فردية. لا إطلاقاً، فهي مدانة وتسم مرتكبيها وقادتهم بالسوء، وبالجريمة في بعض الحالات.
كثر من أصدقائي الشخصيين، والذين أعرف نبلهم، متخوفون من سيطرة طرف ذا توجه سياسي إسلامي، على سوريا، لتصبح سوريا أفغانستان أخرى محكومة بنسخة أخرى من طالبان، لا مكان فيها للمختلف دينياً وطائفياً، أو حتى فكرياً. وهو تخوّف مشروع ويستند إلى ثلاثة عشر عاماً من الممارسات المخزية لتلك الأطراف. فما الذي تغيَر؟
من الواضح أن حلب كانت أكبر من توجهات الإسلاميين التقليدية، ما جعلهم ينصاعون لها، فاستخدموا خطاباً جديداً ومختلفاً، بدا للبعض، وأنا منهم، صادماً. فإن كانت حلب وحدها قد روضت خطابهم، وانعكس ذلك على السلوك والمممارسات، فما بالكم بما ستفعله بهم كامل سوريا. على أية حال إن كان هذا التغيير حقيقياً، بمعنى أنه سيمثل نهجاً جديداً، أو كان هناك وراءه جهة خارجية تتحكم به وتعقلنه، فإن التراجع عنه سيبدو عسيراً مستقبلاً، ففي السياسة رغم أنها تحتمل التلوّن والتحولات، لكن لا يحدث أن جهة ما تتوجه إلى الجموع بخطابٍ، وبعد أن تنتهي من مهمتها، تمد لهذا الجمهور لسانها لتقول له أنها كانت تخدعه وتضحك عليه.
إسقاط نظام الإجرام الذي أسسه الأسد، والقطع مع الاستبداد، مع الطمأنينة بأنه لن يكون هناك نكوص أو إنتاج استبداد بوجه مختلف هو ما يجب أن يجمع السوريون عليه اليوم. وهذا لا يمكن له أن يقوم من دون مواجهة مع السلطات المرشحة بلا مهادنة، فالمخاوف مشروعة ويجب أن تكون موضوعاً للنقاش، حتى لا يتكرر وقوعنا في ذات الحفر التي وقعنا فيها خلال أربعة عشر عاماً.
من حق أي سوري أن يحلم بتحقيق شكل الدولة أو الحكم الذي يراه مناسباً، ولكن عليه وهو يحلم بما شاء، أن يحتفظ بذهنه بفكرة بالغة الأهمية، وهي ألا يحطّم أحلام باقي السوريين.
ما يطمئن أن الثورة السورية، في أحد وجوهها، هي ناتج وعي اجتماعي تراكمَ لدى السوريين، وأوصلهم للحالة التي لا يمكنهم بعدها الانصياع لأشكال السيطرة التي مارسها الأسد. إن تقدّمَ الوعي عند الأفراد، على اختلاف توجهاتهم، ليصلوا إلى تمثُّل فكرة الحريّة وإعلاء قيمة الكرامة الإنسانية، وأن الانتماء إلى الوطن يتقدم على أي انتماء آخر، هو بالضرورة أحد المفاتيح الأساسية لبناء سوريا.
بالتأكيد أنه من حق أي سوري أن يحلم بتحقيق شكل الدولة أو الحكم الذي يراه مناسباً، ولكن عليه وهو يحلم بما شاء، أن يحتفظ بذهنه بفكرة بالغة الأهمية، وهي ألا يحطّم أحلام باقي السوريين، وهذا بداهة لن يقوم سوى في سوريا ديموقراطية لكل أبنائها.
المؤسف اليوم في كامل الصورة، أن المختلفين بشدّة حول ما يجري، ليسوا من الفاعلين، بمن فيهم المنخرطون في المعارك أيضاً. من الواضح أن هناك توجه جديد، دولي وإقليمي بما يخص سوريا. الأمر الذي حرّك المشهد الثابت منذ سنوات، وزلزلهُ خلال أيام. وإن مصالح السوريين ليست في الميدان كما يجب، ولكن من الممكن لهذا التحول أن ينجز وضعاً أفضل من حالة الاستنقاع الذي عاشته القضية السورية، مع تأجيل حل كافة تبعاتها التي يدفع ثمنها السوريون من الضفتين، إن كانوا موالين أو معارضين.
يردد كثيرون في هذه اللحظات، أنهم خائفون على مستقبل سوريا، وأنا من هؤلاء. ويأمل آخرون، على العكس، أن القادم سيكون أفضل. ولن تستغربوا إن قلت لكم إنني من هؤلاء أيضاً. أجل خائف من استبدادٍ له وجه مختلف، وأحلم بسوريا من دون مافيات الأسد وعتاة مجرميه. هل أبدو رومانسياً حالماً لم أتعلم ألف باء السياسة؟ لن أجيب بنفي قاطع، فقد حدث أن كنت كذلك في أكثر من محطة. كل ما أعرفه عن نفسي أنني لا أزدري مطالب الناس ولا حتى مشاعرهم. لا أتعالى على جراح وخيارات الناس باعتبار أنه ينقصهم الوعي أو الدين، والأهم أنني لا أَسِمُ المختلفين معي، بالجهل وأنهم مجرد رعاع لا يدركون أين تكمن مصلحتهم.
نهايات عام 2012، في آخر صورة للشهيد يوسف الجادر قبل استشهاده، جلس “أبو فرات” بين المقاتلين على الأرض، مكسوّاً بغبار معركة تحرير مدرسة المشاة بحلب، ليقول بأنه مزعوج رغم النصر، لأن “هذه المعدات التي دمرناها لنا، وهؤلاء الذين قتلناهم هم إخوتنا”، ليكمل
بعدها، بأنه لو أقدم “ابن الحرام”، يقصد بشار الأسد، على الاستقالة منذ البداية لكانت سوريا أفضل البلدان. كم تحتاج سوريا الآن، أكثر من أي يوم مضى، إلى أصوات تشبه صوت “أبو فرات”، وهو من انخرط حتى النهاية في تحرير سوريا من الاستبداد، من دون أن يفقد روحه وقلبه وحتى رومانسيته.
المصدر: تلفزيون سوريا