أسامة الرشيدي
لم تمنع الهزيمةُ الساحقةُ، التي مُنيت بها إدارة الرئيس جو بايدن وحزبه الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الماضية، وزيرَ الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، من استمرار ممارسة صهيونيته وخدمته الوفية للاحتلال الإسرائيلي، انسجاماً مع الأداء المنحطّ الذي مارسه باقتدار طوال أكثر من عام كامل، بعد اندلاع معركة طوفان الأقصى.
من جديد ما تفتّق عنه ذهن بلينكن من تخديم لسياسة الاحتلال قوله، إن “حماس لم ترفض إطلاق سراح الرهائن فقط، بل رفضت عرضاً للخروج الآمن من قطاع غزّة”، مطالباً بالضغط على “حماس” لقبول هذا العرض بدلاً من الضغط على إسرائيل، ومتّهماً العالم أجمع بالتزام الصمت تجاه رفض “حماس” هذه المقترحات (!).
يصوّر وزير خارجية بايدن ما يحدث في قطاع غزّة فيلمَ إثارة أميركيا رخيصا، يُحتجز فيه رهائن بيد عصابات جريمة منظّمة، تطلب أموالاً في مقابل إطلاق سراح المحتجزين، وتوفير وسيلة نقل لهم إلى مكان آمن، ثمّ تتصاعد الأحداث بين الخاطفين وضبّاط المباحث الفيدرالية، والضباط المكلّفين بالتفاوض، قبل أن يتمكن البطل المقدام من هزيمة العصابة وتحرير الرهائن وقتل الجناة.
يحمل هذا التصريح كذلك نوعاً من التذاكي، أو “الفهلوة” بالتعبير المصري، إذ يتجاهل أن حركة حماس أكّدت مراراً وتكراراً، أنها لن تطلق سراح الأسرى الإسرائيليين لديها، إلّا بعد وقف الحرب، وسحب قوات الاحتلال من قطاع غزّة، وإجراء صفقة تبادل يُطلَق بموجبها سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال. ويبدو أن بلينكن يتصوّر أن تطبيق سيناريو بيروت عام 1982 ممكن، إذ أُجبرت وقتها منظّمة التحرير الفلسطينية على الخروج من لبنان تحت وطأة الغزو الإسرائيلي. لكن يبدو أن بلينكن تلميذٌ راسبٌ في مادّة التاريخ، ولا يعرف أن الفلسطينيين في غزّة يقاتلون في أرضهم، وليس كما كان الأمر في عام 1982، وبالتالي لا يوجد أيُّ تصوّر لتطبيق سيناريو مثل هذا.
يبدو أن هناك تنسيقاً بين بلينكن ومسؤولي الاحتلال، وأن الطرفَين قرّرا استهلاك الوقت في تصريحات عبثية تحاول “استحمار” المتابعين
يحتار المرء إذن، عندما يجد مثل هذه التصريحات تتكرّر طوال الأشهر الماضية، وتزداد الحيرة، عندما يصدر هذا العبث من مسؤولين إسرائيليين، إذ يفترض أن الاحتلال، بسبب طول مدّة سرقته للأرض وخبرته في اضطهاد ضحاياه، أصبح يفهم جيّداً عقلية المقاومة التي يواجهها، والتي لا تعبأ بأيّ مكاسبَ دنيوية أو شخصية، بل تكافح من أجل استرداد الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية.
لكن يبدو أن هناك تنسيقاً بين بلينكن ومسؤولي الاحتلال، وأن الطرفَين قرّرا استهلاك الوقت في تصريحات عبثية تحاول “استحمار” المتابعين، فنجد مُجرم الحرب بنيامين نتنياهو، يقرّر اتّباع السياسة نفسها عندما صرّح بأنّه يعرض خمسة ملايين دولار، وما سمّاه “ممراً آمناً” للخروج من غزّة لأيّ شخص يعيد أسيراً إسرائيلياً. الخيال الدرامي الأميركي الرخيص نفسه. تحوّل هذا الخيال شيئاً مثيراً للاشمئزاز، عندما تحدّث مُجرم الحرب عن توفير الممرّ الآمن لأسرة الشخص الذي يُطلِق سراح أسير، فقد استشهدت آلاف العائلات، ومُحيت بأكملها من السجلّ المدني، ومنها عائلات حرّاس الأسرى، ما دفع أحدهم إلى قتل أسير بعدما تلقى خبر استشهاد طفليه.
استمرأت إسرائيل مثل هذه الأجواء، بسبب الدعم الأميركي، ما دفعها إلى تنفيذ عمليات هوليودية خائبة، من قبيل تنفيذ إنزال في شواطئ لبنان، واختطاف قبطان بحري، وكأنّنا أمام نسخة رديئة من الأفلام الحربية الأميركية. وصلت الدراما الأميركية الإسرائيلية المشتركة إلى مستوىً جديد من الرُخص عندما تداولت وسائل إعلام في البلدَين أخباراً متكرّرة عن وجود “تقدّم” في المباحثات بهدف التوصّل إلى وقف لإطلاق النار في لبنان، لكنّ المدقق لهذه الأخبار يجدها (جميعاً) تدور بين واشنطن وتلّ أبيب فقط، أي أن أميركا تتحاور مع إسرائيل، ويتناقش الطرفان ويختلفان ويحاولان تقريب وجهات النظر بينهما، وتقدّم إسرائيل شروطاً وتتجاوب معها الولايات المتحدة، ثمّ تسرب إدارة بايدن أن تقدّماً يحدث في سبيل إقرار الهدنة، وتحتفل بهذا التقدّم المزعوم متناسيةً أن هناك طرفاً أساساً في المعادلة لم يُؤخذ برأيه بعد، هو لبنان، وكأنّه من المفترض أن يشكر هذا السخاء الأميركي ويقبل بما يُعرَض عليه بعد إتمام تمثيلية المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي. نموذج تطبيقي معاصر لمقولة “وعد من لا يملك لمن لا يستحقّ” يتكرّر بحذافيره أمام أعيننا، يكشف احتمالَين لا ثالث لهما، إمّا أنها محاولات ساذجة للتذاكي، أو أن واشنطن وتلّ أبيب لا تفهمان المنطقة حقّاً، وأن أزمتهما ليست في نقص المعلومات أو التحليلات، بل تحتاجان إلى خبراء في علم الاجتماع لفهم ما يحدث حقّاً.
المصدر: العربي الجديد