أحمد مظهر سعدو
لم تكن العملية العسكرية التي أطلقتها الفصائل العسكرية السورية المعارضة ردّة فعل على ما يجري من خروقات النظام السوري للهدنة وللتفاهم الموقّع بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيّب أردوغان (في الخامس من مارس/ آذار 2020)، فقط، بل كانت عملية ردع العدوان، بالإضافة إلى ذلك بمثابة اشتغال وترتيب وتخطيط عسكري وسياسي عُمِل عليه طويلاً وحثيثاً منذ سنوات متتابعة، وصولاً إلى ساعة وتاريخ بدء العملية، ضمن قراءة موضوعية ومتأنية لظروف دولية وإقليمية مواتية، لعلّ من أهمهما الحرب الإسرائيلية على حزب الله وإيران في سورية، وخروج المليشيات (وكذلك السياسات) الإيرانية مهزومة من تلك الحرب، ثمّ متابعة ذلك قصفاً وتنكيلاً من الطيران الإسرائيلي، وأيضاً طيران التحالف الدولي، وهو ما أدّى إلى ابتعاد مليشيات حزب الله، وكذلك المليشيات العراقية (الحشد الشعبي وفصائله)، عن خطّ المجابهة الميدانية مع المعارضة السورية المسلّحة في كلّ من سراقب وريف حلب الغربي.
كما أن التوجّه الدولي الجديد الذي أضحى محسوماً بإخراج المليشيا الإيرانية وتوابعها، من جلّ الجغرافيا السورية، ومنع أي تهديد أمني لإسرائيل، ساهم في إعادة إنتاج ذلك واستغلاله، في أتون هذه اللحظة، لتكون العملية مستفيدةً واقعياً من أجواء التفتّت والتبعثر لدى حلف “المقاومة والممانعة” المزعوم، بقيادة الإيرانيين، ووجود هذه المليشيات التي تم استجلابها من أفغانستان وباكستان وإيران والعراق لتعيد قيامة النظام السوري، بعدما وصل عام 2013 إلى حافّة السقوط والتلاشي.
يضاف إلى ذلك واقع جيش النظام السوري الذي أضحى مهترئاً، وعلاه الصدأ، وانفضّ عنه كثير من أبناء سورية إبّان الحرب الهمجية الاستبدادية التي قام بها ضدّ الشعب السوري المنتفض بثورته منذ أواسط مارس 2011 جيشُ النظام، الذي لم يعد يجد دعماً لا عسكرياً ولا حتى تموينياً، في ظلّ أجواء ومآلات الدولة الفاشلة في سورية، التي أوصل من خلالها الوضع الاقتصادي والحياتي المعيشي إلى الحضيض، وحوّلها نظام بشّار الأسد نموذجَ دولة فاشلة بامتياز، وجعل نسبة الفقر في سورية تصل لعتبة 90%، فأضحى الإنسان السوري غير قادر على تأمين قوت يومه، ولا حتى دوائه، ولا أدوات التدفئة في ظلّ شتاء قارس، أو أيّ من لوازم الحياة البشرية الضرورية والمفترضة لأيّ إنسان على وجه البسيطة.
أضحى جيش النظام السوري مهترئاً، وعلاه الصدأ، وانفضّ عنه كثير من أبناء سورية
ضمن هذه الأجواء وهذه البيئة تحرّك ثوار سورية، المنتمون إلى الفصائل العسكرية المنضوية تحت ما يسمّى “الجيش الوطني”، المدعوم تركياً، وأيضاً من بعض العرب، وبالتوافق والتنسيق والاتفاق مع “هيئة تحرير الشام”، التي بدأت هي الأخرى بتغيير خطابها السياسي والأيديولوجي منذ مدّة، وأرسلت كثيراً من الرسائل المباشرة وغير المباشرة للغرب، والأميركيين خاصّة، لتكون مقبولةً أو متقبَّلةً لديهم من خلال الدور الجديد.
تحرّكت قوات الفصائل بإمكانيات وتدريب جيّد، واكتسحت الساحات، وصولاً إلى مدينة حلب، العاصمة الاقتصادية السورية، ودرّة طريق الحرير، وعمق التاريخ العربي والإقليمي، ففرّ عناصر النظام السوري وأدواته كلّها في ليل مظلم، وتابعت هذه الفصائل تقدّمها مسيطرةً على الطريق “M5″، الشريان الحيوي والاقتصادي الأكثر أهمية، وتمكنت من السيطرة على سراقب ومعرّة النعمان، ثمّ خان شيخون، وصولاً إلى الريف الحموي الشمالي، حيث تشهد بوابات مدينة حماة (وما زالت) أشدّ المعارك. وليس بعيداً من إمكانيات التقدّم والنصر المحقق عملياً، تلك الأجواء الإقليمية التي جعلت روسيا غير راضية عن مسارات نظام الأسد وتصرّفاته ومواقفه، بعدما حاولت روسيا كثيراً فتح بوابة موسكو، للولوج في عملية التطبيع بين تركيا والنظام السوري قبل ذلك بسنة، من دون تلبية الطلب من نظام بشّار الأسد بتحريضٍ من الإيرانيين. هذا الأمر دفع الروس إلى غضّ الطرف في البداية عن هذه الهزائم التي تكبّدتها قوات الأسد، ولم تتدخّل روسيا في الأيّام الأولى إلى أن وصلت دمشق إلى حالة الاستغاثة، ثمّ تحاول إيران الضغط نحو دعم نظام الأسد، أو إنقاذه، فراح الطيران الروسي يشارك في المعركة، ومن ثمّ ضرب المدنيين والعسكريين من المعارضة السورية.
ما زالت المعارك بين المعارضة والسلطة الأسدية حمّالة أوجه، وما زال الوقت مبكّراً لأيّ حالات تهدئة أو تفاهمات جديدة
من خلال هذه المعطيات، هل يمكن عبر هذه الأجواء الدولية والإقليمية أن يبقى طريق دمشق مفتوحاً أمام الثوار وصولاً إلى دمشق العاصمة وإزالة نظام بشّار الأسد؟ وهل أصبحت الأجواء الدولية والإقليمية، بعد خسارات إيران الكُبرى مواتيةً للانفضاض كلّياً على نظام الأسد، وتركه لمصيره؟ .. القراءة الموضوعية تقول إنه لم يحن الوقت بعد لذلك كلّه، وما زال هناك متّسع من الوقت أمام نظام الأسد، ومعه إيران، لإعادة ترتيب الأوضاع، ومن ثمّ القبول بالحلّ السياسي، ومنه إعادة تفعيل مسار اللجنة الدستورية المتوقّفة، أو العودة إلى مسار أستانة المتعثّر. لكنّ الدور الوظيفي لنظام الأسد يبدو أنه لم ينته بعد، وما زالت إسرائيل ومعها أميركا ترى أنه خير نظام يحمي ما يسمّى بالأمن القومي الإسرائيلي، وهو (أي نظام آل الأسد) قام بهذا الدور وما زال منذ عام 1974، عندما وقّع حافظ الأسد اتفاق “فضّ الاشتباك” مع إسرائيل، وحفظ أمن الكيان الصهيوني، ولم تسجّل أيُّ اختراقات بينه وبين إسرائيل أبداً. والنظام السوري (الممانع) رغم الاستهدافات للجغرافيا السورية من إسرائيل، ورغم حالات استمرار العدوان على قطاع غزّة وعلى لبنان، ما زال يتمسّك بصمته الاستراتيجي، ويعضّ على الألم، حفاظاً على بقاء نظامه وسلطته ودوره الوظيفي النفعي المصلحي البراغماتي.
لعلّ الأيام المقبلة ما زالت حُبلى بالكثير، وما زالت المعارك بين المعارضة والسلطة الأسدية حمّالة أوجه، وما زال الوقت مبكّراً لأيّ حالات تهدئة أو تفاهمات جديدة، تقودها مسارات أستانة، حتى لو تمّ الاجتماع الثلاثي المُرتقَب في الدوحة بين تركيا وإيران وروسيا، لكنّ الترتيبات النهائية قد تأخذ كثيراً من الوقت، ويبدو أن طريق دمشق لم يُقفَل بعد، لكنّه ليس مفتوحاً على مصراعيه، بينما ما برحت المعارضة السورية، والسوريون المنتفضون على نظام بشّار الأسد، يعتقدون أنه لا بدّ من دمشق، وإن طال الزمن.
المصدر: العربي الجديد