أسامة أبو ارشيد
لا تخضع الأفكار والمبادئ والمواقف لمقارباتٍ حدّيةٍ ونظرياتٍ صلبة على أرضية أبيض – أسود دوماً وأبداً، بل ثمّة استثناءات ومواءمات وموازنات ومناطق رمادية. يعتمد ذلك على حجم تعقيد المسائل ومستوى التحدّيات التي يواجهها هذا الطرف أو ذاك. هذا ليس اجتراحاً لفهم غريب، ولا هو بالأمر المستجدّ، وفضاؤه لا يؤطّر عالم السياسة فحسب، بل إنّنا نعيشه تجربةً وواقعاً مرّات ومرّات في شؤون حياتنا الخاصّة، ومع ذلك لا نعدّه خروجاً عن المنظومات القيمية، بقدر ما هي موازنات ومواءمات ضرورية واستثنائية في أحشائها. تبرز إشكالية عندما يزعم بعضهم أنهم متّسقون فكرياً ومبدئياً ومواقفياً دائماً وأبداً، ويسعون إلى محاكمة غيرهم من منطلق اتّساقهم المزعوم ذاك، رغم أنه ليس له وجود إلّا في مخيالهم، أو ادّعاءاتهم. والحقيقة أن مثل ذلك الزعم ما هو إلّا تحيز لمصالح الذات، ومحاولة لتسويغ ما يصعب تسويغه على أرضية أخلاقية. المشكلة الأعوص تتمثّل في من ينفون وجود النسبية في المواقف، أو في أولئك الذين يعجزون عن إدراك هذا المُعطى حسب تغير الظروف والمعطيات والسياقات. ومن ثمَّ، ينتهي بهم الأمر ضحايا، أو متسبّبين في وقوع ضحايا، أو في الحدِّ من قدرة من هو في موقع المسؤولية والقرار على إبداء المرونة المطلوبة للتعامل مع تحدّيات جوهرية، وربّما حتى وجودية.
داعي التقديم السابق هي التطورات التي تشهدها سورية منذ عشرة أيّام، أي منذ إطلاق فصائل المعارضة السورية عملية “ردع العدوان” ضدّ قوات النظام والمليشيات الإيرانية المتحالفة معه. منذ 27 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، تمكّنت فصائل المعارضة من تحرير ما تبقّى من محافظة إدلب، التي كان أغلبها خاضعاً لها، ثمّ سيطرت على مدينة حلب ومناطقَ واسعةٍ من المحافظة، وهي حالياً تحاصر مدينة حماة، وقد تكون في طريقها إلى حمص قريباً. ولأن هذه التطوّرات تجيء متزامنةً مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة ولبنان، والتصعيد بين إسرائيل والمحور الإيراني في المنطقة، فقد تباينت الآراء والمواقف ممّا يجري في سورية، بين مؤيّد ومتشكّك ومُعارِض. بل ارتفعت وتيرة الاشتباكات اللفظية والاتهامات التخوينية بين مؤيّدي إيران ومحورها، بما في ذلك النظام السوري، ومن يرون الأولوية في تعزيز المحور المنخرط في محاربة إسرائيل وحلفها الغربي في المنطقة، والذي تُعَدُّ إيران وأذرعها في القلب منه.
لا يهدف هذا المقال إلى محاولة فهم (وشرح) خلفيات ما يجري في سورية من تطوّرات، فقد قيل وكتب في ذلك كثير. ما يسعى إليه هذا المقال هو التأكيد على أنه يمكن أن تتبدّل المواقف والتخندقات ما بين سياق وسياق، بشكل يأخذ في اعتباره هُويَّة المتصارعين وأرضية الصراع. مثل هذا التبدّل لا يندرج في الذرائعية واللاأخلاقية، وإن كنا لا نستطيع أن ننفي البراغماتية هنا بشكل مطلق. من ينكرون وجود مثل هذه المنطقة الرمادية والنسبية، أو أنهم يرفضونها، هم من يخلقون التوتّر والتشنّج والانقسامات بين من يفترض أن يكونوا في الصفّ ذاته، حتى عندما تتعدّد الساحات وتختلف التحدّيات والمعطيات.
ما ينبغي أن نفهمه جميعاً أن كلا الشعبين الفلسطيني والسوري ضحايا، وينطبق الأمر على اللبنانيين والعراقيين واليمنيين
وحتى نكون أكثر وضوحاً، لا يخفى على أحد ذلك الشرخ القائم بين بعض السوريين ومؤازريهم، وبين بعض الفلسطينيين وأنصارهم، حول أولوية العداء، أيكون نحو إيران وأدواتها في المنطقة أم نحو إسرائيل؟ كثيراً ما عَتِب هؤلاء السوريون وغيرهم على بعض الفلسطينيين ومن يؤيّد موقفهم لطلبهم وتلقّيهم الدعم من إيران وحزب الله، بل إن هؤلاء اعتبروا أن القصف المتبادل بين إيران وإسرائيل ما هو إلا مسرحية. وعندما شنّت إسرائيل حرباً مدمّرة على لبنان وحزب الله لم يتورّع كثير منهم في إظهار الشماتة بالضربات المؤلمة التي تلقّاها حزب الله، ولم يتردّدوا في مهاجمة كلّ من أبدى تعاطفاً مع الحزب في حربه ضدّ إسرائيل التي هي تهديد للمنطقة بأسرها. كان هذا الطرف يتعامى، ولا يزال، عن الإبادة الوحشية بحقّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، وما فعلته إسرائيل في لبنان، ويريدون من الضحية الفلسطيني أن ينقلب على الطرف الوحيد الذي يقف معه، في الوقت الذي رماهم فيه العرب والمسلمون والعالم عن قوس واحدة! الآن، انعكست الآية؛ عندما شنّت المعارضة السورية هجومها على قوات نظام بشّار الأسد تعالت أصوات بعض من يعلنون أن بوصلة العداء ينبغي أن تكون موجّهة نحو إسرائيل فحسب. تعالت أصواتهم مستنكرة ومندّدة بأن في ذلك حرفاً للبوصلة عما يجري في غزّة وتواطؤاً ضدّ أحد أضلاع “محور المقاومة”، أي سورية. لم يكتفِ هؤلاء بذلك، بل عدّوا الأمر مؤامرةً إسرائيليةً – أميركية، بهدف تقويض نظام الأسد، وقطع طرق إمداد السلاح الإيراني إلى حزب الله في لبنان عبر سورية. دع عنك تطويق روسيا أميركياً في سورية من أجل استنزافها أكثر في أوكرانيا. يردّد هذا الطرف تلك المقولات، بغض النظر عن مدى صحّة بعضها، متغاضين عن حقيقة بشاعة جرائم نظام الأسد والمليشيات الإيرانية والقوات الروسية في سورية ضدّ الشعب السوري 14 عاماً.
ما ينبغي أن نفهمه جميعاً أن كلا الشعبين الفلسطيني والسوري ضحايا. ينطبق الأمر على اللبنانيين والعراقيين واليمنيين. إسرائيل عدو فاجر ووحش مفترس لا يريد خيراً بنا نحن العرب جميعاً، وهي مصدر كثير من مشكلاتنا في المنطقة. في المقابل، ليست إيران ملاكاً بريئاً ولا حملاً وديعاً، وهي وأذرعها ارتكبوا (ولا يزالون) كثيراً من الجرائم البشعة بحقّ بعض شعوبنا العربية. لكنّ تحدياتنا عرباً متعدّدة ومعقّدة في ظلّ غياب ظهير عربي رسمي قوي. ومن ثمّ، يضطر بعضنا لمحالفة إيران ضدّ إسرائيل، لكن هذا لا ينبغي أبداً أن يتحوّل رضىً وتسليماً بجرائمها في سورية. ينطبق الأمر نفسه على حزب الله. في المقابل، نفي حقّ السوريين في التخلّص من دكتاتور ومليشيات طائفية تدعمه في سحقهم بذريعة أن في ذلك استنزافاً لإيران وحزب الله في وقت يمثّلان فيه جزءاً أساسياً من جبهة الصمود ضدّ إسرائيل أمر من الصعب تسويغه. لو كان ثمّة تجريد لأمكن قول ذلك، لكنّ التجريد منعدم هنا، خصوصاً أن إيران وحزب الله لا يساعدان في تركيز العداء على إسرائيل، بل إنهما مصدر أساس للخلط والضبابية القائمين في هذا الصدد. يقف كثيرون مع إيران وحزب الله وهما في خندق القتال ضدّ إسرائيل، غير أنهم يقفون مع الشعب السوري ضدّ إيران وحزب الله في دعمهما نظام بشّار الأسد. أكثر أهميةً من هذا وذاك، لا بدّ من أن نتفهّم ونتقبّل النسبية والرمادية بين الأطراف المختلفة، فمن كانت مواجهته المباشرة مع إسرائيل لا يتوقّع منه أن يعلن العداء لحزب الله وإيران، ومن كانت مواجهته المباشرة مع الطرفَين الأخيرَين عليه أن يدرك أن إسرائيل هي عدوّه الأبدي.
المصدر: العربي الجديد