أحمد جاسم الحسين
الكتابة عن سوريا من قلب دمشق، لحظة جاءت في غير وقتها. لحظة إيمانية من نمط “كن فيكون”، جاءت بعد فقدان أمل، ولم يعد ينفع معها مقولة شعبية “اقرصني كي أصحو وأصدق أن تلك اللحظة من واقع” لأن جلد جسمك أدمن اللاأمل!
تصل إلى دمشق، التي ينشط عاملو الدهان فيها لإزالة وسخ عَلَم، كان علماً للبلد ذات يوم، فصار رمزاً لنظام القتل والإجرام، لذلك يسارع الدهانون إلى إزالته، مستثمرين نهاية الأسبوع ليخلصوا المدينة من جزء مزعج من ذاكرتها.
تصل إلى دمشق بعد عشرة أيام من انهيار لا يختلف عن انهيارات الدكتاتوريات من قبل، انهيار بلحظة واحدة، يؤكد الناطق الرسمي أن كل شيء بخير، في حين، يرمي العساكر لباسهم ورمز قوتهم ليلبسوا اللباس المدني، تلك لحظة فارقة في حياة المدينة، نوع من التخلي عن رمزية القوة في الإدارة نحو العادية حيث يصبح كل الأشخاص عاديين، من دون قوة رمزية، أن يعود ناسها إلى فطرتهم الأولى. هكذا يغدو التخلي عن العسكرة طريقاً للنجاة، بعد أن كانت العسكرة في دمشق طريقاً للحياة والقوة والوجود والأثر.
تنظر إلى وجوه البشر المغسولة بالتعب، تكاد لا تقوى على المشي من كثرة ما أنهكت، أسأل أحدهم: يقول لي: حتى كوننا متعبين لم نكن نستطيع التعبير عنه، كنا نخاف أن نقول: إننا متعبون، نحن أبناء الصمود والتصدي حيث التعب ممنوع!
تدور أجزاء من المدينة عبر سيارات أجرة متعبة كذلك، تستمع إلى محطات إذاعات عدة فيها شيوخ ومغنون وفنانون، كأن دمشق تستعيد تنوعها كـمدينة بألوان بعد أن كانت بلون واحد فقط!
يبادلك سائقوها نظرات لم تغسل رعبها بعد، فتذكّرهم أن المدينة من دون مخابرات اليوم، لا يصدق عقلهم الباطن ذلك.
يسوغ لك أحد سائقيها تجاوز إشارة المرور عند التقاطعات رغم خطورته عليه وعلى الآخرين، فيرد مبتسماً: هذا نوع من التأكد من أن شرطي المرور لم يعد موجوداً! وأن السلطة السابقة لم تعد موجودة!
تبحث عن اسمك بين المفقودين الذين تنتشر أسماؤهم على الأعمدة، لعلك تجده، فأنت ضائع مثلهم ومعهم، أهلهم وضعوا أسماءهم ليبحثوا عنهم مع الأحياء، لا يريدون أن يذهبوا للمقابر، أو السجون، وضعوا أسماءهم وسط الأسواق، لعلك رأيتهم أو رأوك.
يبادلك سائقوها نظرات لم تغسل رعبها بعد، فتذكّرهم أن المدينة من دون مخابرات اليوم، لا يصدق عقلهم الباطن ذلك.
لا تزال غير مصدق، حسناً؛ اذهب إلى تلك المطاعم والمقاهي التي لديك فيها ذكريات، تناول الطعام الذي كنت تأكله، اشتر فطيرة من هنا، سندويشة من هناك، واشرب الشاي الخمير في مقهى الروضة. كل المعطيات الواقعية تشير إلى أن لا شيء في الواقع يشبه شيئاً مما في ذاكرتك، فما المتوقع من جودة طعام بلد يكاد أن يكون بلا كهرباء! كيف ستحفظ الأطعمة، لكنك اليوم تأكل بطعم الذاكرة، وتشرب كذلك، ذاكرتك هي التي تسيرك وتقود خطواتك، فلا ترى الوسخ أو كل تلك الظواهر المزعجة التي تحيط بك!
تريد أن تقبض على لحظة مستقبل أو حاضر في مدينة تشير خطواتها إلى أنها من الماضي البعيد، مدينة خارج الزمن، فيها لوحات مطاعم وديكورات معاصرة، مدينة نسيها الزمن سنوات وسنوات، ليس الأشخاص وحدهم يخرجون من الكهوف، المدن كذلك، هي حال دمشق.
تسألك المدينة عن إمكانية التنبؤ بمستقبلها، تستمع إلى خطط وأفكار ومناقشات بين مجموعات من فندق الشيراتون وفندق الميريديان، حيث جاءت تلك المجموعات إلى هنا كون الإنترنت سريعاً هنا، وكذلك وجود محطات فضائية ومقيمون قادمون من الخارج، كأن المدينة التي كانت تناقش مستقبلها السياسي في مقهى الكمال والروضة والهافانا؛ باتت تناقش مستقبلها هاهنا في إشارات إلى التحول، من أن أهلها هم الذين يحددون مستقبلها، إلى مدينة تدرك أن أهلها مؤثر في مستقبلها من بين عدة مؤثرات أخرى، إقليمية ودولية كذلك.
يحضر قادة سابقون ومؤثرون اجتماعيون في تلك الجلسات، يركض شباب وصبايا لالتقاط صورة معهم، مقاطعين حديثهم، إنه زمن الصورة!
تسألك شابة تتدرب على العمل السياسي: هل سيأتي أحد ليستمع إلينا؟ فيقاطعها زميلها: لنتدرب على الحكي أولاً! يجيب زميلك: نحن هنا نحكي، لكن القرار في مكان آخر!
لا أحد يصدق، لا أحد يعرف مراكز القرار، لا أحد يعرف شيئاً عن الخطوة التالية، أو اليوم التالي، وضاعت كل تلك المنظمات التي حصلت على آلاف الدولارات لترسم سيناريو اليوم التالي، بات الناس يعيشون يومهم بسعادة وكلهم ثقة أن أحداً لن يأتي قبل الفجر ليعتقلهم، هذا هو اليوم التالي المؤكد ها هنا، وكل سيناريوهات المراحل الانتقالية اليوم التالي غير موجودة في دمشق، التي ولّدت معنى جديداً لليوم التالي!
تجلس بجانب سيدة في مقهى دمشقي، تشير لهجتها وطريقة ارتدائها للحجاب أنها خائفة من اليوم التالي، بعد أن كانت مرتاحة في اليوم السابق، تسألها ما الذي يخفيك من اليوم التالي؟ فتقول لك: ما يخيفني أنني اعتدت أن أعيش في ظل القوة!
تسألها: هل تعرضت لشيء مخيف في اليوم التالي؟
تقول لك: لا! لكن الحذر من الخوف من اليوم التالي هو الذي جعلني أختار لباساً يحميني في اليوم التالي المتوقع! هكذا اختارت تلك السيدة “سيناريو” ما لليوم التالي، فهيأت نفسها له!
والخوف من اليوم التالي هو الذي جعل اللهجة الدمشقية ملاذاً لكثيرين لا تخفى عليك لهجتهم الأم، يحتمون باللغة، ينكرون ملامحهم وتاريخ جزء من عوائلهم، يسعون للمحافظة على على لقمة عيشهم باللغة!
إعلامي عربي اعتاد أن يأتي إلى دمشق بين فترة وأخرى يقول: هذا كثير علينا، أن نتحدث من دون أن ننظر إلى ما حولنا، كنا نظن دمشق لا يمكنها أن تعيش من دون “الحيطان لها آذان” هل خلعت الحيطان آذانها؟
يتجمع آلاف الشباب عند ساحة الأمويين للتعبير عن صوتهم، كنا ننتظر أن يكون لنا ميداننا يوماً، تتساءل: الأولى بساحة ملائمة لوقوف أقرب للجميع ذات دلالة تاريخية هي ساحة المرجة مثلاً، وهي مهيأة أكثر للمشاة والتظاهر، لكن أولئك الشباب والصبايا يحضرون إلى ساحة الأمويين والسيف الدمشقي ليقولوا – كما يرى أحدهم: نريد أن نقول للإيرانيين انتهى المشروع الفارسي، هذه دمشق عاصمة الأمويين!
تذهب إلى المدينة القديمة المهملة فتجد أن الناس استعادت جامعها الأموي كذلك، مع أنها لم تمنع عن الصلاة فيه، غير أن جموعهم تقول لك: الشام دمن ون مخابرات غير!
في الفناء الخلفي للجامع لا بد أن تعرّج على قبر صلاح الدين الأيوبي، فتجد أن قبر العالم الدمشقي سعيد رمضان البوطي وضع هناك بجانبه، وهو الذي فقد قيمته الرمزية لدى معظم السوريين بعد أن اختار الوقوف مع النظام البائد، تلوم عائلته، لأنها وضعته بجانب قبر صلاح الدين الأيوبي؛ مما يحتم على الزائرين تذكره، وبالتالي قد تسمع شتيمة لقبر ودعاء لقبر، هذا يشيد بصلاح الدين وبطولاته وهذا غير راض عن موقف البوطي من الثورة السورية.
أحياناً؛ التخفي والصمت أفضل الحلول، وهو ما لم يقم به فنانون كثيرون دعوا إلى إبادة السوريين المختلفين عنهم قبل سنوات وباتوا اليوم يركضون للتعبير عن ندمهم عبر شاشات التلفزة: لمن نكن نعرف! تلك جملة سهلة لتحقيق الاعتذار في عصر التسامح الدولي، مع أن كثيراً من السوريين لا يثقون بهم، حتى لو كانوا يعرفون لفعلوها لأنهم بلا كرامة أو إنسانية، كما يرى مستاؤون منهم!
يقول لك حكيم: ربما التأخر في النصر فيه حكمة لا نعلمها، لو انتصرنا سنة 2013 مثلاً لأكلنا بعضنا، ولألغينا بعضنا بعضا كذلك. تلك كانت لحظة نشوة وسكرة أما انتصار اليوم فيأتي في لحظة فكرة، فقد جاء النصر بعد انكسار طويل، بعد أن تعرف السوريون إلى السوريين الآخرين. تساعدنا وتعاتبنا واختلفنا واتفقنا وفقدنا الأمل معاً، بات كثير منا معجوناً مع الآخر ألماً وشوقاً وحزناً وغربة ولجوءاً!
تنظر إلى وجهك في المرآة، لقد غدوت شاباً بخبرة شيخ في دمشق، تقول: أمامي 54 عاماً للفرح كي أعوض فيها 54 عاماً عشتها في ذلك العهد المر، عمراً عشته تنتظر الفرح: تفتح شباك غرفتك، تمدّ رأسك خارج النافذة وتقول لدمشق: أنا كذلك لم أكن أعرف كم أحبك إلا في لحظتين: لحظة مغادرة حين قبلت أرضك مودعاً. ولحظة عودة حين مددتِ ذراعيْك لتحضنيني ثانية، بعد أن أكلني الشوق.
احضنيني أيتها الجميلة أكثر وأكثر، لأنام إلى الأبد هنا، فالنوم الهانئ بين يدي الحبيب أحد أبرز الطرق للتعبير عن الامتنان للمحب والشعور بالأمان معه، خاصة؛ أولئك الرجال الذين لا يتحدثون كثيراً لمن يحبون، بل يكتفون بلغة العيون، مع أن الحبيبة تنتظر منهم الأحاديث والسهر!
المصدر: تلفزيون سوريا