لميس اندوني
منذ تبوّأ أحمد الشرع موقع حاكم “الأمر الواقع” لسورية، انبرت أصوات، كنتُ منها، تُطالب بوضع أسس نظام تعدّدي سياسي ودستور يضمن الحريات وحقوق المواطنة، فهذه فرصة لتأسيس نظام جديد، مع الأخذ بالاعتبار أن خلفية هيئة تحرير الشام تُثير تساؤلات مشروعة، وبخاصة في ما يتعلق بالتمييز المذهبي ووضع حقوق المرأة والديمقراطية. ولكن، يجب أن نعترف أنه ليس هناك نموذج تعدّدي تقتدي به القيادة غير المختبَرة والمفتقرة إلى التجربة في دمشق، بل يجب الاعتراف أن جزءاً مما يحدث أن جلَّ اهتمام معظم الدول العربية، وحتى الأصوات الإعلامية العربية، يتركز على الذعر من قيادة “إسلامية” في دمشق، تقوّي التيارات الإسلامية وتهدّد الحكّام العرب.
للشفافية؛ أعارض حكم الإسلام السياسي. لكن؛ يوجد فرق بين المعارضة والانصياع لدول قمعية دكتاتورية تتباهى بالتطبيع مع إسرائيل وتدعس على حقوق مواطنيها بلا تردّد. لذا؛ يصبح ضرورياً وضع نقدنا والمحاذير من توجّهٍ يبدو دينياً ضيقاً في سورية، وتمييزه عن الأصوات المعادية للشعوب والمبرِّرة للفساد والقتل والتعذيب وفقاً لتبعية الكاتب والسياسي ومصالحه.
عليه، ضروريٌّ التذكير بأن ملاحظتنا ونقدنا مبنيّان على مطالبات “الشارع العربي” خلال الانتفاضات العربية، التي تلخّصت في شعار “حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية”، وأحبطتها الثورات المضادة، إضافة إلى التدخلات الخارجية والافتقار إلى قيادة موحدة وواعية ولديها برامج سياسية والوعي بأهمية وخطورة، ولنكن أكثر صراحة، دخول تنظيمات أفرزها “داعش” على خط الانتفاضات العربية.
ليس ما تقدّم من قبيل التركيز على تاريخ الأطراف المنضوية تحت قيادة هيئة تحرير الشام، وإن كانت هناك ضرورة لأن تُراجع في دمشق، وإنما للاعتراف بعدم وجود نموذج تعدّدي بين الأنظمة العربية، وإن كان يمكن أخذ أمثلة من إنجازات حقوقية في بعض الدول العربية، تحت ضغط شعبي وهيئات مدنية. لكن الأساس تقبُّل القيادة في دمشق فكرة تأسيس نظام تعدّدي ديمقراطي، مع وعينا بأن أغلب الأنظمة العربية ستحارب نشوء نظام جديد يختلف عنها في سورية.
معضلة النظام العربي الكبرى ليس ما يحدُث في سورية تحديداً، وإنما محاربة ومنع دعم أي توجه ديمقراطي في أي دولة عربية كانت. ومخاوف الدول العربية هي من نشوء دولة إسلامية في سورية، ليست حرصاً على حريات الشعب السوري، بل كان دور بعضها الوظيفي القضاء، وما يزال، على التيارات الإسلامية، أو تطويعها لمصالحها، إضافة الى خوف أنظمة معيّنة، كل من منظوره، من تمرّد تنظيم الإخوان المسلمين عليها، كما نرى في الأردن وتونس، وبدرجة أكثر عدائية في مصر، وأكثر تطرّفاً في موقف الإمارات. فبدل أن تنشغل الدول العربية بحماية سورية، ولو بالذهاب إلى مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، ضد التوغل الإسرائيلي في الأراضي السورية، باستثناء اعتراضات الأردن على محاولة ضم أجزاء من هذه الأراضي، نجدها جميعاً محكومة بمخاوف تضعضع سلطتها. وهي مسألة تستطيع هذه الأنظمة، إن أرادت، حلها بالبدء بالتعامل مع تململ الشعوب بالتخلي عن القمع وكبت الحريات والحلول الأمنية. لكنها أسطوانة نكرّرها ولا من سميع أو مستجيب، ما يعيدنا إلى مسألة غياب النموذج التعددي الديمقراطي.
النظام العربي المهترئ وقنوات إعلامية تابعة جل اهتمامها ترويج التطبيع مع إسرائيل والتحريض ضد التيارات الإسلامية والمقاومة
حتى لو تفهّمنا مخاوف أنظمة، وفئات واسعة، من تأسيس حكم “إسلامي” وفقاً لمفاهيم ضيقة إقصائية في دمشق، فإن معظم الدول العربية ستحارب فكرة عقد اجتماع لجامعة الدول العربية (المضمحلة) لإعلان ميثاق التزام عربي بمواثيق حقوق الإنسان، يشكل رسالة إلى دمشق. لكن هذا سيناريو يحلق في كوكب المريخ، فهي نفسها بحاجة إلى الالتزام بأدنى درجات حقوق الإنسان، وهذا آخر ما يهمها. والقصد هنا أن معارضة دول عربية حكماً إسلامياً في دمشق لا يتعلّق بحقوق الإنسان، وإنما بالخشية أن تنتزع التيارات الإسلامية منها السلطة، ولتثبت لواشنطن أنها قادرة على منع ذلك.
طبعاً هناك لاعب في غاية التطرف نرى تعبيراته في بعض القنوات العربية المموّلة من دولة عربية، تفضّل التعامل مع إسرائيل.. بل ويفصح مدير قناة “سكاي نيوز” العربية نديم قطيش (لبناني وليس سورياً)، ويكرّر أنه ليست لديه مشكلة مع إسرائيل، لكنه “لن يسمح بظهور محمد مرسي”. يشاركه في حملته، كما دائماً، الكاتب المصري إبراهيم عيسى، بمواعظه التحريضية، وإن كان لا يروّج إسرائيل أو العلاقة معها. أي أن النظام العربي المهترئ وقنوات إعلامية تابعة جل اهتمامها ترويج التطبيع مع إسرائيل والتحريض ضد التيارات الإسلامية والمقاومة، وتتجاهل جرائم الحرب والقتل أو الاعتقال والتعذيب؛ أي منع أي حوار حقيقي، أو حتى نقد موضوعي، حتى لو كان قاسياً، للتيارات الإسلامية، فالهدف خدمة مصالح الأنظمة وإرضاء أميركا، ولا مكان لطموحات الشعوب ورأيها.
الأهم والأنكى أنه لا توجد حال نهوض شعبي عربي، فحرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني لم تُنتج انطلاق حركة شعبية واسعة، لأسبابٍ، منها القمع والإحباط، والذهول من مشاركة الغرب (المتحضّر) في المجازر ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني، وصمته عن غزو أراضٍ سورية وسعي إسرائيل إلى ضمّها واعتراف الرئيس المنتخب ترامب باعتبار هضبة الجولان المحتلة جزءاً من إسرائيل، في ظل تواطؤ وصمت رسميين عربيين؟
الأمل في النهاية معقودٌ على الشعب السوري، لتحديد المسار، ولنتحمّل مسؤولية دعمه بدون حسابات ضيقة وأنانية
كلها، وعوامل أخرى، يجب دراستها ونقد الوعي المشوه والمستسلم الذي نخر تفكير الشعوب وعطّل التفاعل الموضوعي مع الأحداث التاريخية في سورية. ومن يقود معارضة قيادة “الأمر الواقع” في سورية دول ليست لديها معايير لحقوق الإنسان ولا للقضايا التحرّرية، فيما يسعى الغرب إلى التعامل الفوقي استعماري الثقافة، والقيادة الجديدة تحاول كسب الدعم بتصريحات تؤكد أنها ليست خطراً على أحد، فيما تُعربد إسرائيل بحرية وتنتهك أرض سورية والدول المحيطة بها.
المسألة معقدة؛ وعلى المنظمات الشعبية والمدنية والنقابات المهنية التحرّك تجاه سورية، وأن تبدأ بنقاش وحوار علني وإعلان موقف موضوعي واضح.. ما يزيد المسألة تعقيداً أن بعض الهيئات العربية الشعبية مسكونة بالإسلاموفوبيا، وليس بالموقف المبدئي المعارض وغير الإقصائي للتيارات الإسلامية، وبعضها كان قد انغمس بتأييد النظام السابق في سورية، تحت شعار العداء للإمبريالية، لكن لا بد من التحرّك وتحمّل مسؤولية دراسة الرد وكيفية التعامل، فالأمر يخص كل الشعوب العربية.
لا يعني ذلك أن تغتنم التيارات الإسلامية الفرصة للاستقواء، فأيديولوجيّتها هي الأخرى لا تؤسّس لحكم تعدّدي ديمقراطي، بل آن الأوان لانفتاح الشعوب العربية بعضها على بعض. قد يكون هذا الكلام ضرباً في الخيال، لكن على القيادة الجديد في دمشق تقبُّل النقد، وتفهُّم المخاوف، فهي لم تأت من تقليد تعدّدي أو ديمقراطي، وعليها أن تدرك أننا جميعاً في القارب نفسه على مرمى من الترسانة العسكرية الصهيونية والأجندة الاستبدادية للرئيس الأميركي القادم، والأمل في النهاية معقودٌ على الشعب السوري، لتحديد المسار، ولنتحمّل مسؤولية دعمه بدون حسابات ضيقة وأنانية.
المصدر: العربي الجديد