محمد أبو رمان
يعيد صعود هيئة تحرير الشام في المشهد السوري، بعد إسقاط نظام الأسد، الإسلام السياسي إلى واجهة النقاش والجدل في الساحات السياسية والفكرية العربية، بعد سنين عجاف مرّت بهما هذه الحركات في مختلف الاتجاهات الأيديولوجية التي تنتمي إليها. إلا أن التطوّرات السورية تثير تساؤلاتٍ وأسئلةً أكثر ممّا تقدّم إجاباتٍ واضحةً لدور الإسلاميين في المرحلة المقبلة ومستقبل السياسة العربية بأسرها، مع إعادة الأمل لهم (الإسلاميين) بإمكانية التغيير مرّة أخرى بعد عقد ونصف العقد من بزوع مرحلة “الاحتجاجات الشعبية العربية”.
لا يرتبط السؤال الكبير بتقييم هذه الحركات، نجاحاً أو فشلاً، بوصفها جزءاً من الحلّ أم من المشكلة، بكونها فشلت في تجربتها السياسية أم أُفشِلت، لكنّه مرتبط بتأثير ما حدث في سورية فيها وفي قدراتها ومساراتها خلال المرحلة المقبلة، ففي حين هيمنت ثلاثة اتجاهات رئيسة خلال العقود الأخيرة على الاتجاهات الأيديولوجية والسياسية الإسلامية، من يمكن تسميتهم بـ”الإسلاميين السياسيين المعتدلين” (الذين يؤمنون بصندوق الاقتراع للوصول إلى السلطة السياسية)، والجهاديين (الذين يؤمنون بالعمل المسلّح ويرفضون الديمقراطية ويُكفّرون من يقولون بها)، والسلفيين التقليديين (المستنكفين عن العمل السياسي قبل “الربيع العربي”، قبل أن يدخلوا في تحوّلات وتقلّبات عديدة)، فإنّ الاتجاه الجديد الذي تمثّله هيئة تحرير الشام يعتبر جديداً ومختلفاً، ويرتبط مصيره السياسي بقدرٍ كبير من الغموض.
تثير الحرب الإسرائيلية على غزّة، والتماهي الأميركي معها، أسئلة شباب الحركات الإسلامية عن مدى مصداقية قيم الديمقراطية والليبرالية
يتجاوز ما حدث في سورية حدودها الجغرافية والسياسية، ويصل مداه الفكري والسياسي إلى دول ومجتمعات عربية كثيرة، ضمن ظروف سياسية واقتصادية هشّة تمرّ بها كثير من هذه البلاد، وحالة “فقدان وزن إقليمي” يمرّ بها النظام العربي بأسره، مع غياب الأيديولوجيات والأفكار السياسية الكبيرة لدى الحكومات العربية التي عجزت عن القيام بأيّ دور فاعل في التعامل مع التطوّرات الإقليمية بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، بخاصّة مع حرب الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين في غزّة، ومع حكومة يمينية إسرائيلية لا تخفي نواياها في ضمّ الضفة الغربية والسيطرة الكاملة على القدس، وفي لحظة تاريخية حاسمة في تاريخ المنطقة مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لكن معه هذه المرّة فريق أكثر يمينية وبأفكار صهيونية مُعلَنة وواضحة للعيان، وحالة من الترقّب الإقليمي وعدم اليقين تجاه مسار التطوّرات الإقليمية المقبلة. ذلك كلّه يتجمّع في مربّع مكثّف ليشكّل “مفترق طرق” على أكثر من صعيد.
بالعودة إلى التيّارات الإسلامية، ولنبدأ بالحركة الأمّ جماعة الإخوان المسلمين وشقيقاتها في دول المغرب العربي، نجد أنّ هنالك حالةً من الإحباط الشديد لدى أتباعها وأنصارها، وفي وقتٍ تعاني فيه هذه الحركة من المنع والحظر والاتهام بالإرهاب في دول عربية عديدة، فإنّها تواجه انهياراً في قدراتها السياسية في دول أخرى، وبالرغم من الفوز النسبي الذي حقّقه الإسلاميون في الأردن (في الانتخابات النيابية الماضية بحصولهم على قرابة 30 مقعداً في مجلس النواب)، إلّا أنّهم يبقون أقلّيةً، ولا يمثّل هذا الانتصار تغييراً يذكر في مشهد هذه التيّارات عربياً، بينما دخلت حركة النهضة في تونس في النفق نفسه الذي وصلت إليه الجماعة الكبرى في مصر، ويقبع زعيمها ورئيس مجلس النواب راشد الغنوشي في السجن، فيما تراجع حزب العدالة والتنمية في المغرب إلى درجة كبيرة، ولا يتجاوز الإسلاميون الجزائريون خطوط المشاركة السياسية التقليدية المحدودة، بعد سنين طويلة من جدل المشاركة والمقاطعة هناك، أمّا في ليبيا فتختفي الألوان الإسلامية تحت وطأة الحرب الداخلية ذات الامتدادات الإقليمية بين حكومتَي الغرب والشرق.
تمثّل حركة حماس أحد أبرز التجلّيات الرئيسة لجماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي، وتثير الحرب الإسرائيلية في غزّة أسئلةً ملحّةً لدى نسبة كبيرة من أبناء التيّار الإسلامي “المعتدل” عموماً، بخاصّة بعد صعود هيئة تحرير الشام، حول جدوى العمل السياسي البرلماني والديمقراطي، الذي لم يؤدِّ إلى تغييرات بنيوية، بل تورّطت تلك الحركات في دهاليز العملية السياسية، وانتهى بها الأمر إلى السجون والنفي ومقصلة الإعدام، أو الفشل الشعبي مرّة أخرى، ولا تقدّم “سردية المظلومية” التاريخية لدى الجماعة اليوم أجوبةً عن الأسئلة المستقبلية، بخاصّة السؤال الأكبر: ما العمل؟ فضلاً عمّا تثيره الحرب الإسرائيلية من أسئلة لدى شباب هذه الحركات عن مدى مصداقية القيم الديمقراطية والليبرالية، وإمكانية تطبيقها في هذا الموقف الأميركي المتماهي مع حرب الإبادة في غزّة.
في المقابل، فإنّ لجوء هذه الحركات إلى حمل السلاح (في دول عربية كثيرة، بخاصة التي تعاني فيها من الحظر والتهميش) مسألة غير مطروحة، بعد هذا التراكم الفكري والسياسي ونضوج قناعاتهم برفض هذا المسار، بالرغم من دعوات بعضهم إلى العودة إليه وإلى “الفكر القطبي”، إلا أن السنوات الأخيرة أظهرت تخلّيهم عن هذا الطرح، لكن ربّما تشكّل الحالة السورية الجديدة، وفي حال نجحت هيئة تحرير الشام بتقديم نموذج جديد في الحكم مستوحىً من النموذج التركي (والمقصود هنا المرتبط بأيديولوجيا العدالة والتنمية التركي، الذي تخلّى عن الشعارات الإسلامية التقليدية، ودخل في مرحلة جديدة من الممارسة السياسية منذ عقدين ونصف)، إلى تحفيز هذا التيّار للقفز نحو مرحلة جديدة من الخطاب السياسي البراغماتي المشابه للسوريين.
مع ذلك، من الضروري أن نضع بالاعتبار أنّه بالرغم من تراجع نفوذ جماعة الإخوان المسلمين وتأثيرها في سورية، خلال العقود الأخيرة، فإنّ الواقع السياسي الجديد قد يشكّل عودة قوية للجماعة، بخاصة أنّها ما زالت تملك قواعد شعبية وسياسية، وربّما تكون منافساً لـ”الصيغة الحزبية” الجديدة لهيئة تحرير الشام، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن موقف النظام العربي، بخاصّة ما تثيره العديد من الدول من حساسيات شديدة تجاه الإسلام السياسي، فالأفق المستقبلي لهذا لاتجاه السياسي ما زال برسم التطوّرات والتحوّلات، وكمّ كبير من المتغيرات التي تتداخل في تشكيل المرحلة الجديدة.
في ما يخصّ التيّار السلفي، الذي تفاعل في دول عربية عديدة مع الاحتجاجات والتحوّلات السياسية، وشهدت الأعوام التي تلت 2011 محاولات عديدة لتشكيل أحزاب سياسية سلفية، كان أبرزها حزب النور المصري، الذي ما زال قائماً وحاضراً في المشهد المصري، وإن كان ذلك بتأثير محدود جدّاً، فيما عادت أغلب اتجاهات التيّار السلفي إلى العمل الدعوي والوعظي، وتخلّت عن الطموحات السياسية، خلال العقد الماضي، ويمكن هنا تسجيل ملاحظة مدهشة، سواء في الحالة المصرية أو الليبية أو حتى السورية (مع الأخذ بعين الاعتبار الخلفية السلفية – الجهادية لهيئة تحرير الشام)، أنّ هذا التيّار أظهر براغماتيةً سياسيةً تجاوزت، ليس الإسلاميين فقط، بل التيّارات السياسية الأخرى، وساعدتهم في ذلك “ترسانة التراث الفقهي”، التي تمنحهم مساحةً واسعةً من التقلّبات بذريعة فقه الضرورة والمصالح والمفاسد والتعامل مع الحكومات التسلطية والاندماج، ثمّ سرعة الانكفاء عن العمل السياسي، وهي حالة جديرة بالتعمّق في الدراسة والتحليل (ألّف كاتب هذه السطور كتاباً عن هذه التحولات، “السلفيون والربيع العربي… سؤال الدين والديمقراطية في السياسة العربية”، عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، 2013، ثمّ أضاف في الطبعة الثانية منه فصلاً خاصاً عن البراغماتية السياسية لدى حزب النور السلفي).
بيد أنّ مشكلة السلفيين التقليديين اليوم لا تقتصر على الموقف من العملية السياسية، فمن الواضح أنّهم خسروا كثيراً من “الدلال” الذي كانوا يحظون به مع الحكومات السلطوية العربية، قبل “الربيع العربي”، وأدارت لهم السياسات الجديدة ظهر المجنّ، وانقلبت إلى دعم خصومهم الصوفيين ورعايتهم، بعدما رأوا أن الاتجاه الصوفي، بتركيزه على الفردية والروحانيات، أكثر أمناً وأماناً للسياسة العربية من الأفكار السلفية، التي وإن كانت تتجنّب السياسة خلال مرحلة ما قبل “الربيع العربي” (2011)، إلا أن ما وصلت إليه من “هيمنة ثقافية” على المجتمعات العربية، وقابليتها للتحوّل وتقديم نماذجَ سلفيةٍ مختلفة، دفع إلى تحويل الاتجاه في موقف كثير من النظم العربية من هذا الاتجاه.
الاتجاه الثالث هو السلفي الجهادي، الذي انقسم بدوره بعد صعود تنظيم داعش في العام 2013، ثمّ إقامته دولته التي امتدت سنين عدّة، وما أحدثه من زلزال أمني عالمي وإقليمي، بين هذا التيّار والتنظيم الجهادي الأمّ المتمثل بـ”القاعدة”، وإذا كانت هيئة تحرير الشام قد انفصلت بصورة كاملة، أيديولوجياً وحركياً، وحتى سيكولوجياً، عن القاعدة، فإنّها ليست الضربة الأولى لها، بل سبقها انقلاب “داعش” عليها، وخسارة القيادات التاريخية الكبرى في الشبكة، في أفغانستان واليمن والسعودية والمغرب العربي، وفي الأثناء تخلي حركة طالبان عن العلاقة مع التنظيم، الذي يبدو اليوم في حالة “كومة تنظيمية”، وبلا أفق أيديولوجي حقيقي، وغياب مؤشّرات إلى عودته على المدى القريب.
الإسلاميون ليسوا بالضرورة متغيّراً مستقلاً، بل قد يكونون في كثير من الأحيان متغيراً تابعاً
في الطرف المقابل، بالرغم من خسارة تنظيم داعش، ليس لـ”خلافته” (كان شعارها باقية وتتمدّد) فقط، بل حتى لجزء كبير من سرديته الأيديولوجية، وما لحق به من هزائم متتالية، في مقابل نجاح لخصومه “طالبان” وهيئة تحرير الشام، إلا أن التنظيم لم يمت، ويُظهِر قدرةً كبيرة على التأقلم والتكيّف العملياتي مع هذه التطوّرات، ولا يتوانى عن استثمار أيّ ظروف سياسية وأمنية لملء الفراغ، وهو بما اتخذه من أساليب جديدة في التجنيد والدعاية ما زال قادراً على اكتساب العديد من الأتباع والمؤيدين، ومرشّحاً مع حالة الغضب والإحباط لدى جيل كبير من الشباب العربي للعودة عبر استثمار هذه الحالة، وإن كان ذلك لن يكون بالصيغة التي ظهر عليها في نسخته السابقة.
إذا تجاوزنا هذه الخريطة المتشعبة للاتجاهات الإسلامية، فإنّ النظرية التي من المفترض أن تكون حاضرة في تحليل ما يحدث (أو سيحدث مستقبلاً)، هي أنّ الإسلاميين ليسوا بالضرورة متغيّراً مستقلاً، بل قد يكونون في كثير من الأحيان متغيراً تابعاً، في تحوّلاتهم وصعودهم وتراجعهم، فهم محكومون بالحالة العامّة في الدول والمجتمعات العربية، وبالتطورات الداخلية الخاصة بالعديد من الدول العربية، في ظلّ ظروف داخلية وإقليمية أبعد ما تكون عن الاستقرار والهدوء، وفي ظلّ أزمات مركّبة تمرّ بها هذه المجتمعات والدول.
المصدر: العربي الجديد