علي أنوزلا
أدرك أن العنوان مستفزٌّ إلى حد ما، لكن لن يكون أكثر استفزازاً من الصور المؤلمة التي تخرج يومياً من غزّة لأجساد الأطفال المتفحمة، أو ما تبقى منها، بعد أن حرقتها ومزقتها القنابل الإسرائيلية، كما لن يكون مستفزّاً مثل فيض الإنسانية الذي غمر فجأة شاشات كبريات القنوات الغربية هذه الأيام، وحالة الهلع المشروعة التي انتاب أناساً كثيرين في ولاية لوس أنجليس وآخرين جاؤوا من ولايات أخرى ليضمدوا جراح حيواناتٍ أليفةٍ تضرّرت أو يبحثوا عن المفقود منها وسط رماد أحد أكثر الحرائق تدميراً في تاريخ الولاية.
فجأةً، استيقظت إنسانية الإنسان الأبيض في أميركا، وكشفت الحرائق التي لا تزال مشتعلة وأدّت إلى تشريد ما لا يقل عن 200 ألف شخص وحيواناتهم الأليفة، عن معدن الناس الأصيل هناك وهم يهرعون لمساعدة ومواساة بعضهم بعضاً، وأظهرت الصور والفيديوهات الواردة من هناك حجم التعاطف والحب الذي يغدقون به على الحيوانات الأليفة التي اكتوت بنار الحرائق. وهيمنت على وسائل الإعلام ذاتها التي لم تعد تورد أخبار غزّة التي يستشهد على أرضها يومياً عشراتٌ من الأبرياء، أغلبهم من الأطفال والنساء والمدنيين العزّل الأبرياء، ويخضع سكانها منذ نحو 15 شهراً لإبادة جماعية غير مسبوقة ولحصار كامل يمنع الدواء والطعام من الوصول إلى الأحياء منهم، هيمنت أخبار وقصص حيوانات أليفة تضرّرت جراء الحرائق في لوس أنجليس التي أدت إلى ما تصفها الصحافة الأميركية بـ “أزمة حيوانية”، على غرار “الأزمات الإنسانية”، خلفتها هذه الكارثة البيئية الفظيعة، ضحاياها حيوانات أليفة وحيوانات برّية.
وحفلت نشرات الأخبار على القنوات الإعلامية الكبيرة، كما صفحات كبريات الصحف والمواقع الإلكترونية بالصور والفيديوهات التي تحكي قصص حيوانات صغيرة أصبحت يتيمة عثر عليها تحت رماد الحرائق، وقصص حيوانات أخرى نجت بأعجوبةٍ، لكنها ما زالت تعاني حروقاً واستنشاق الدخان الملوث والجوع والعطش. وتحدّثت وسائل الإعلام نفسها عن أزمة الملاجئ الحيوانية التي باشرت السلطات ببنائها لإيواء الحيوانات المتضرّرة أو الشاردة، لكنها أصبحت “ممتلئة للغاية” بعدما استقبلت أكثر 1500 حيوان من مختلف الأنواع، خاصة من القطط والكلاب، لكن أيضاً من خيول وحمير وخنازير وأرانب ودجاج وبط وطيور وثعابين وسلاحف، بالإضافة إلى حيوانات أخرى برّية. وعرضت وسائل إعلام مصوّرة ومكتوبة الكثير من “القصص الحيوانية” والصور المؤثرة لحيواناتٍ متضرّرة، مثل صورة كلبةٍ بيضاء تدعى روكسي، في أحد الملاجئ، مغطّاة بالكامل بالرماد عُثر عليها في منزل منهار. ويقول التقرير الصحافي المرافق للصورة إن “روكسي تقيم حالياً في وحدة العناية المركزة بالملجأ لتلقي العلاج من الحروق الشديدة في جسدها ووجهها والقرح في عينيها بالإضافة إلى لثتها الملتهبة للغاية”. بينما يتحدّث تقرير صحافي آخر عن عديد من الحيوانات التي ما زالت في عداد المفقودين، مثل القطّة الصغيرة هوكو التي كتبت صاحبتها على “فيسبوك” إنها لم تتمكّن من إخراجها من تحت سريرها عندما اضطرّت إلى إخلاء منزلها بسرعة، والذي دُمر بالكامل، وتدعو الله أن تكون هوكو بخير، وتطلب من متابعيها الصلاة من أجل أن تكون قد نجت بطريقةٍ ما!
تضامنت إسرائيل مع ضحايا الحرائق، وهي التي ما زالت تمنع دخول الدواء والطعام حتى لا يصل إلى من نجوا في قطاع غزة
وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي دعواتٌ إلى التبرّع لمساعدة الحيوانات المتضرّرة، نشرتها مؤسسات رعاية الحيوانات، وتحدّثت وسائل الإعلام عن عشرات المتطوّعين الذين قدموا من مختلف الولايات لمساعدة هذه الحيوانات، كما نقلت تقارير صحافية صور أطنانٍ من المساعدات، وهي مأكولات خاصة بالحيوانات الأليفة. وأعلنت عديد من ملاجئ الحيوانات في الولايات المتحدة فتح أبوابها للحيوانات المُتخلى عنها، وعرضت نقل الحيوانات المريضة والمتضرّرة لمعالجتها في عياداتها، وكتب أحد أصحاب هذه الملاجئ “قلوبنا وتفكيرنا مع لوس أنجليس وسكانها وحيواناتها في هذا الوقت المخيف والمحزن”.
جميلٌ هذا التعاطف الكبير مع أزمة حيوانات لوس أنجليس، ومبهر هذا الفيض من التعاطف والحنان والحب الذي يبديه الناس هناك لمساعدة حيوانات ضعيفة كادت أن تلتهمها الحرائق التي ما تزال مشتعلة في جبال (وسهول) الولاية التي احترقت عن كاملها. لكن، في الوقت نفسه، كم هو غريب هذا الشعور الذي يجعل الإنسان الغربي يحزن ويبكي ويُسارع إلى إنقاذ حيوانٍ أليف، وهذا، في حذ ذاته، شعور نبيل، لكنه لا يلتفت إلى آلاف الأطفال والنساء الذين تقتُلهم يومياً في غزّة وحوش بشرية بسلاح غربي وبحماية غربية وتواطؤ إعلامي غربي.
لو أن هذه القصص حدثت في بلد آخر غير أميركا كان يمكن النظر إليها تدخّلاً في إطار الرعاية والرأفة التي تستحقها الحيوانات في كل مكان، لكن ما يجعل الصور غير مستساغة، وإلى حدّ ما، مستفزّة أنها تجري في أميركا التي منحت إسرائيل ما يناهز 26 مليار دولار مساعدات عسكرية لاستهداف سكان قطاع غزّة في حرب إبادة ما زالت مستمرة استشهد فيها أكثر من 46000 فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال، وجرح أكثر من مائة وعشرة آلاف، بالإضافة إلى آلاف المفقودين ومئات الآلاف من المشردين لا أحد يتحدّث عما يعانونه من آلام وويل وجوع وأمراض في منطقةٍ تحولت إلى أكبر مقبرة مفتوحة على السماء في العالم!
كل ما يتمنّاه الإنسان أن يصحو ضمير بعضهم ليعاملوا ضحايا الجرائم الصهيونية بمعاملتهم نفسها ضحايا حرائق لوس أنجليس من الحيوانات
المفارقة أن من بين من أعربوا عن تضامنهم مع سكان لوس أنجليس التي التهمتها النيران السفارة الإسرائيلية في واشنطن التي كتبت على موقع “إكس”: “قلوبنا مع سكان جنوب كاليفورنيا حيث تستمر حرائق الغابات في التأثير على المجتمعات. إسرائيل تقف متضامنة مع المتضرّرين، وترسل القوة إلى رجال الإطفاء الشجعان والمستجيبين الأوائل الذين يعملون بلا كَلال لحماية الأرواح والمنازل”. وقد أثارت هذه التدوينة ردات فعل عنيفة استفزها تعاطف إسرائيل مع أهل لوس أنجليس في غضون حربها المستمرّة على غزّة منذ 15 شهراً قتلت وجرحت فيها أكثر من 160 ألف فلسطيني، أغلبهم من الأطفال والنساء، وما زالت تمنع دخول الدواء والطعام حتى لا يصل إلى من نجوا، تطاردهم يومياً من ملجأ إلى ملجأ بعد أن دمّرت بيوتهم وحرقت مدنهم بالكامل. هل هذه هي إسرائيل نفسها التي تحرق المستشفيات والمدارس الممتلئة باللاجئين وترمي القنابل الفتاكة والصواريخ الحارقة في بثٍّ مباشر لقتل وحرق أكبر عدد من الناس؟ هل هي نفسها التي تتباكى اليوم على حرائق لوس أنجليس وينفطر قلبها الهشّ أمام مشهد حيوانات أليفة بريئة التهمت النيران فرواتها وأدمت أطرافها؟ بل، ومنا من تابع الجدل التافه الذي أثارته ممثلة أميركية تُدعى جيمي لي كورتيس عندما قارنت بتلقائية غبية بين الحرائق المدمّرة التي اجتاحت لوس أنجليس والوضع المروّع في غزّة، ما أثار عليها ردات فعل قوية تستنكر المقارنة وتدين صاحبتها رغم أنها من داعمي الإبادة الإسرائيلية، وقد سبق لها أن نشرت صورة لأطفال فلسطينيين، على أنهم إسرائيليون من ضحايا هجوم 7 أكتوبر (2023)، وعندما نبّهها متابعوها إلى الخطأ الذي وقعت فيه سحبت الصورة ولم تعتذر!
لن نذهب إلى اعتبار حرائق لوس أنجليس انتقاماً إلهياً لضحايا غزّة كما فعل جهلاء منّا، لكن حتى من ربطوا بين هذه الحرائق والتغير المناخي حَمّلوا المسؤولية للإدارة الأميركية التي أنفقت مليارات الدولارات على إسرائيل لقتل العزّل الأبرياء في غزّة ولبنان بدلاً من استثمارها في البرامج التي تعمل فعلاً على حماية الطبيعة وحيواناتها، وفي هذا جزءٌ من الحقيقة والعقلانية التي افتقدناها في تعامل الغرب مع الجرائم الفظيعة التي ما زالت إسرائيل ترتكبها يومياً في قطاع غزّة بسلاح ودعم وحماية غربية، وكل ما يتمناه الإنسان أن يصحو ضمير هؤلاء ليعاملوا ضحايا الجرائم الصهيونية بمعاملتهم نفسها ضحايا حرائق لوس أنجليس من الحيوانات. ألم يصف وزير الدفاع الإسرائيلي السابق ومجرم الحرب يوآف غالانت الفلسطينيين بـ “الحيوانات البشرية”؟ الآن، يبدو أنه حتى الحيوانات أصنافٌ في معايير الغرب المزدوجة، بل المنقلبة بما أنها باتت تمشي على رأسها !
المصدر: العربي الجديد