عاطف أبو سيف
أعاد سقوط نظام الأسد في سورية تسليط الضوء على مستقبل الدولة الوطنية في المنطقة العربية، فمنذ أكثر من عقدين وسؤال بناء الدولة الوطنية في المنطقة العربية مفتوح لم يتم تحقيق تقدّم كبير فيه منذ سقوط نظام صدّام حسين في العراق، وبعد ذلك الثورات في المنطقة العربية التي قادت إلى انهيار أنظمة ظلت عقوداً تحكم البلدان المختلفة. ثمّة نقطتان أساسيتان وجب التنويه إليهما في مثل الحالة العربية، تتمثلان، أولاً، في أن السعي إلى إعادة بناء الشعب وترتيبات تمكين فئاته المختلفة، يتم المبالغة فيها فتمسّ بجوهر الحاجة لبناء الدولة ضامنة لحقوق أفرادها، وثانياً أن التخلّص من النظام السابق يقود إلى التخلص من أجهزة الدولة، وبدلاً من إعادة بناء الدولة يتم تفكيك الدولة السابقة.
لننتبه إلى أنه فيما لا يمكن الجزم بأن مشاريع بناء الدولة الوطنية في المنطقة التي تعود جذور بعضها إلى أكثر من قرن نجحت في بناء تلك الدولة سابقاً، إلا أنها جعلت منها حقيقة راسخة وثبتت أركانها. ومع ذلك، لم تكن يوماً هذه الدولة دولة مواطنيها، بل دولة حكّامها وجيوشها. لذلك فإن الحديث عن بناء الدولة الوطنية يرتبط أكثر بعودة هذه الدولة للمواطنين. واجهت الدولة الوطنية في المنطقة العربية تحدّيات كثيرة منذ وجودها في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تحدّيات ارتبطت بشرعيّتها وبعلاقتها مع مواطنيها، خاصة أنها وجدت على أنقاض حالة عربية موحّدة في وقوعها تحت نظام سياسي واحد قروناً، بيد أن النضال من أجل الاستعمار في سياقاتٍ كثيرة شرعية، والتفاف كبير حولها، سرعان ما انهار مع توجهات نخب ما بعد التحرّر ونزوعها نحو التسلط والحكم الفردي. قاد هذا إلى خيبة أملٍ كبيرةٍ من الجماهير التي قاتلت من أجل الحرية، ونظرت بتعطّش إلى التخلص من الاستعمار كما انفضاض المثقفين والنخب المعرفية وهجرتهم إلى عواصم الاستعمار نفسها، بعد أن وجدوا أن السجون هي المكان الذي ترى الدولة فيه مكاناً لكل من يخالفها الرأي.
وبذلك انفضّ العقد الاجتماعي الذي لم يتأسس بشكل صلب بعد بين الدولة ومواطنيها. ومع ذلك، نجحت نخب ما بعد الاستعمار في إحكام قبضتها على الدولة وحوّلتها إلى “وكالة” خاصة بها واختطفتها من الشعب الذي لم يعد موجوداً في مؤسّسات الدولة. لذلك ظلت هذه الدول ضعيفة بشكل كبير، ولم تنجح بإحداث تطور اقتصادي، بل تراجع اقتصادها بشكل كبير. لم يوجد اقتصاد عربي حقيقي، وإن وجد فهو ريعي، ولم تنجح دولة عربية واحدة في أن تكون صناعية، وفيما تقدّمت دولٌ كثيرةٌ بعدما تحرّرت من الاستعمار، تراجعت الدول في المنطقة العربية على كل الصعد. ولم يكن خروج المواطن العربي إلى الشارع بعد عقود من نشوء الدولة الوطنية يطالب بتغير النظام، إلا بعد أن طفح الكيل، ولم يعد ثمّة شيء يعيش من أجله.
وبعد عقدين من تجارب إعادة بناء الدولة الوطنية، لم يحدُث نجاح كبير. على الأقل، ثمّة بلدان ما زالت تشهد تمزّقاً واقتتالاً مستمرّاً في السودان، كما في ليبيا كما في اليمن، كما يظل سؤال المليشيات في العراق مؤرّقاً لهيمنة الدولة، رغم الجهود المبذولة في هذا الاتجاه. تبدو الحالة السورية مقلقة أيضاً، خاصة أن خطوات عملية في اتجاه فرض سيطرة الدولة ستعني الاشتباك مع الأخرين، وربما نشوء نوع من الحرب الأهلية التي تريد الدولة الجديدة أن تتجنّبها.
يجب الفصل بين التخلص من النظام وأذرعه ودولته العميقة والتخلص من الدولة
وفي ما يتعلق بالنقطة الأولى سابقة الذكر، يُلاحظ أن ثمة خلطاً كبيراً في بعض التجارب بين بناء الدولة وبناء الأمة أو الشعب، حيث يجري النظر لتطوير آليات حكم تشاركية على أسس ديمقراطية بوصفه الهدف المنشود. عادةً، يجري استحضار الديمقراطية بوصفها العلاج السحري لكل أزمات الدول الضعيفة أو الآيلة للسقوط أو للخروج من مآزق مرحلة ما بعد الصراعات، فالناس تريد أن تكون جزءاً من الحكم، وتريد ترتيباتٍ تضمن لها المشاركة الفاعلة في تقرير مصيرها الذي جرى حرمانها منه خلال مرحلة الصراع، أو الذي سرقته منها النخب التي تحكّمت برقابها عنوة من دون قرار منها. وضمن نسق معرفي ما، هذا صحيح بشكل كامل، إذ لا تقلّ جودة الحكم أهمية عن طبيعة الحكم نفسه وإذ إن آفة الآفات في الدولة العربية أن هناك من اختطفها، وعدم إشراك مواطنيها في صناعة سياساتها، الأمر الذي ترك أثراً على توزيع الثروة وعلى عدم نهوض الاقتصاد وتسريع عجلة التنمية. لكن أيضاً في مراحل معينة قد يكون هذا على حساب بناء الدولة، خاصة في مرحلة إعادة البناء نفسها.
الديمقراطية شيء أساس والاقتصاد القوي من مظاهر استقرار البلاد. وعليه، العمل على تطويرهما وتعزيزهما جوهري في مرحلة بناء الدولة. ولكن ما يجري عادة في مراحل إعادة البناء أن يجري الأمر وفق وصفات جاهزة يطوّرها موظفو البنك الدولي أو صندوق النقد أو مكاتب الخارجية في الدول الكبرى من دون مراعاة لطبيعة كل دولة يتم زرع هذه الترتيبات فيها، فثمة افتراض قهري يعتمد على صوابية المركزية الغربية وصلاحية التجربة الأوروبية لكل المناخات ولكل الفصول والأزمان والبلدان، وهو افتراض استعماري التوجهات في أساسه.
وفيما لا يمكن نفي صلاحية الديمقراطية لأي منطقة فهي أفضل نظام نعرفه على الأقل فإن تطبيقها في مرحلة إعادة بناء الدولة يجب أن يتلو مرحلة بناء الدولة أو أن يكون حسّاساً لعملية البناء ومستجيباً لاحتياجاتها. فعادة ما ينتج عن هذه الترتيبات مؤسّسات هشّة غير قادرة على الصمود بشكل جدّي بعيداً عن ولائها الطائفي أو العرقي. وبذلك، فإنها بدلاً من أن تكون سنداً وتعزيزاً للدولة، فإن صمودها واستمرارها يكون على حساب استدامة الدولة ومؤسّساتها.
في حالات كثيرة، يجري تفكيك الدولة وتحويلها إلى ركام وخراب، ومن ثم يتم النظر في بناء الدولة مرّة أخرى
في دول مثل العراق وسورية والسودان، حيث يوجد تنوع واختلاف عرقي ومذهبي، تبدو مثل هذه الأسئلة شرعية في ظل أن النظم القمعية ارتكزت سابقاً على قمع توجهات المواطنين وحرمان بعضها من أن تكون جزءاً من آلية الحكم. لكن أيضاً الحذر في التعاطي مع عملية بناء الشعب أو الأمة يجب أن يكون جدّياً من أجل عدم تمزيق الدولة وتفتيتها. الناس بحاجة لبناء دولة القانون الذي يكون أهم وأعظم وأكثر قداسة من العرق ومن المذهب ومن كل شيء. دولة القانون وحدها يمكن لها أن توفر حماية للجميع. لذلك فإن تطوير المنظومة القانونية على أسس غير دينية، حتى لا نقتتل حول المذهب وحول أسس مواطنة سليمة، وليس على أسس عرقية، من شأن هذا كله أن يقيم دولة المواطن التي خرج المواطنون من أجلها، والتي كافحت شعوب المنطقة سنواتٍ من أجل تحريرها من يد الطغاة. المنظومة القانونية التي يتشارك الجميع في وضعها وتطويرها تستجيب لاحتياجات الناس وتصوّراتهم حول الدولة التي يريدون أن يعيشوا فيها.
القضية الأخرى التي تقع فيها الدول التي تسعى إلى إعادة بناء نفسها بعد التخلص من النظم السابقة، هي تفكيك الدولة، ففي السعي إلى التخلص من النظام السابق يتم تفكيك الدولة بدلاً من تفكيك النظام. وهذا خلط خطر ويعيق عملية البناء. عانى منه العراق، حيث في السعي إلى تفكيك نظام “البعث” تم تفكيك الدولة العراقية، وظل العراق يعاني عقدين من تبعات ذلك. وربما ستواجه سورية المصير نفسه إذا لم يتم النظر بحذر إلى هذه القضية. حيث عادة ما يجري الخلط بين التخلص من رموز النظام ومجرمي مرحلة الاستبداد والتخلص من أجهزة الدولة السابقة، مدنية كانت أو شرطية أو عسكرية. يتم التعامل وكأنه لم توجد دولة من قبل، وأن القادمين الجدد جاءوا على بلادٍ لم تعرف شكل التنظيم السياسي سابقاً. عانت دول كثيرة من هذه الفجوة ومن هذا القصور في الفهم، ودفعت أثماناً باهظة، ويمكن تخيّل أن هذا كله يحدُث في بعض الأحيان بقصد من الدول الغربية التي تتدخل في عملية إعادة البناء، لأن القصد أن تظل الدولة قاصرة وغير ناجزة.
يجب الفصل بين التخلص من النظام وأذرعه ودولته العميقة والتخلص من الدولة، ففي حالات كثيرة، يجري تفكيك الدولة وتحويلها إلى ركام وخراب، ومن ثم يتم النظر في بناء الدولة مرّة أخرى. وهذه طريقة لا تعيق عملية البناء فقط، بل تحوّلها إلى مهمّة مستحيلة، لأنها أيضاً تخلق اصطفافاً شعبياً وأعداءً للدولة الجديدة من داخل شعبها، فالجميع يجب أن يشعر أن حرية البلاد التي تحققت بالتخلص من النظام السابق لا تكون على حساب حياته واستقرار الدولة التي يريد أن يعيش فيها، فليس ذنب الموظف أنه كان موظفاً في النظام السابق، ولا ذنب العسكري أنه كان عسكرياً ينتظر راتبه في الجيش السابق، بل ذنب الدولة التي لا تجد ترتيباتٍ تكفل أن يكون ولاء كل فرد للدولة التي ستصبح دولة مواطنيها، ولا يعود المواطنون ملكاً للدولة، بل هي ملكٌ لهم.
المصدر: العربي الجديد