معتز الفجيري
تخطّى تسليم السلطات اللبنانية الشاعر والناشط السياسي المصري عبد الرحمن يوسف القرضاوي إلى الإمارات، بعد عودته من زيارة قصيرة لسورية عبر لبنان، كل الأصول القانونية والأعراف الدبلوماسية والقنصلية، أو الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية. يعدّ ما جرى في هذه الواقعة، بكل بتفاصيلها، تعبيراً صادقاً عن المستوى المتدني الذي وصلت إليه السياستان المحلية والإقليمية في المنطقة العربية. احتجزت السلطات اللبنانية الرجل عشرة أيام في لبنان بشكل تعسفي، من دون وجود اتهامات جدّية تبرّر هذا الاحتجاز في دولةٍ عُرف عنها سابقاً تسامحها مع حرية الرأي والتعبير وحرية الإعلام واستقلاله. ثم صدرت عن مجلس الوزراء اللبناني مذكرة تتسم بقدر غير مسبوق من العبث، تبرّر قرار التسليم لأبوظبي في مجرد قضية رأي لم يصدر فيها حتى حكم من محاكم الإمارات. وتتزيّن هذه المذكّرة بفقراتٍ من النفاق المفرط بتطور أوضاع حقوق الإنسان وحكم القانون في الإمارات، ما يجعل، بحسب المذكرة، السلطات اللبنانية مطمئنةً على سلامة الشاعر عبد الرحمن يوسف ومصيره. وجرى التسليم سريعا في اليوم التالي لصدور المذكرة وبشكل سريع وفي أجواء سرّية من دون انتظار طلب المراجعة القضائية الذي تقدّم به المحامون أمام المحاكم اللبنانية صباح يوم التسليم. وقد انقطعت أخبار عبد الرحمن يوسف تماماً منذ مغادرة الطائرة الخاصة الأجواء اللبنانية. ويمثل انقطاع أخبار المعتقلين في قضايا رأي في الإمارات وصعوبة حصولهم على أي دعم قانوني نمطاً متكرّراً ومتّبعاً سواء ضد مواطنين من الإمارات أو عرب أو أجانب، وهناك بالفعل اتهامات وجهت إلى عشرات من الأكاديميين ونشطاء حقوق الإنسان والمحامين منذ عام 2011، أبرزهم المحامي محمد الركن والحقوقي أحمد منصور، وكلاهما في السجن منذ سنوات بعد ادنتهم في قضايا ذات طابع سياسي.
لقد حذّرت المنظمات الحقوقية الدولية والعربية، والمصرية بشكل خاص، في السنوات الأخيرة من توقع ارتفاع وتيرة ما يعرف بالقمع العابر للحدود نتيجة طبيعية مع تزايد أعداد المعارضين خارج بلدانهم، ورغبة حكوماتٍ كثيرة في المنطقة لحصار (وردع) مساحات الحركة في المنفى وتزايد التعاون والتنسيق الأمني لمنافع سياسية أو حوافز اقتصادية ومالية. في نهاية عام 2020 لعبت السلطات الإماراتية، وبحسب الإعلام الغربي ومنظمة العفو الدولية، دوراً في واقعة مشابهه أخرى، عندما استدرج رجل الأعمال والناشط الإنساني والسياسي الرواندي والذي يقيم في الولايات المتحدة بول روسيساباجينا لزيارة دبي بحجّة التعاون في أنشطة خيرية ذات طابع دولي. وروسيساباجينا شخصية بارزة في العمل الحقوقي والإنساني، وقد جسد شخصيته الممثل الأميركي دون شيدل في فيلم “فندق رواندا”، الذي تناول مأساة الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، حيث ساهم روسيساباجينا في إنقاذ مئات من الروانديين التوتسي من مصير القتل. عندما وصل روسيساباجينا إلى دبي جرى خداعة وتغيير مسار رحلته وانتقل بطائرة خاصة تابعة لشركة طيران خاصة مقرّها اليونان، إلى العاصمة الرواندية كيغالي، حيث جرى اعتقاله فور وصوله، وواجه اتهامات على خلفية انتقاداته ونشاطه المعارض للحكومة الرواندية وحكم عليه بالسجن 25 عاماً. تدخلت الولايات المتحدة في هذه القضية ونجحت في إعادته إلى الأراضي الأميركية بعد عامين ونصف العام من اعتقاله في رواندا. أياماً قليلة قبل تسليم عبد الرحمن يوسف للإمارات، اعتقلت السلطات العراقية الناشط السياسي البدون سلمان الخالدي، وكان يقيم لاجئاً سياسيّاً في المملكة المتحدة، في أثناء زيارة له إلى بغداد، وسلّمته إلى الكويت، حيث يواجه اتهامات في قضية رأي. وليس الخالدي مواطناً كويتياً، فقد سحبت جنسيته الكويتية في منتصف عام 2023، ووضعته الكويت على قوائم الإنتربول منذ نهاية 2023 بعد صدور حكم ضده بالسجن خمس سنوات مع الشغل والنفاذ، بتهمة تتعلق باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي. وكانت السلطات التونسية قد رضخت للضغوط الجزائرية، وسلّمت هي الأخرى في أغسطس/ آب 2021 المعارض الجزائري سليمان بوحفص للجزائر، رغم أنه كان يقيم في تونس بصفة لاجئ منحتها إياه مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين في تونس، وكان في انتظار إعادة التوطين كلاجئ خارج تونس. وقد مثل بوحفص للمحاكمة الجنائية في اتهاماتٍ تتعلق بالإرهاب فور وصوله إلى الجزائر.
يذكّرنا تسليم عبد الرحمن القرضاوي بحقيقة استعداد دول عربية عديدة للتفريط في سيادتها
يذكّرنا تسليم عبد الرحمن القرضاوي بحقيقة استعداد دول عربية عديدة للتفريط في سيادتها، وارتهان نخب الحكم والسياسة والإعلام فيها للنفوذ المالي والسياسي الذي تمارسه قوى إقليمية عربية تتصاعد سطوتها الإقليمية والدولية منذ حصار ثورات الربيع العربي. وبقدر ما يعبّر تسليم هذا المواطن المصري عن طول يد القمع، إلا إنه مؤشّر إلى بؤس حال السياسة في منطقتنا العربية، عندما يجتمع التنسيق الأمني بين الحكومات ووزراء داخليتها، وفي سياق اتفاقات تسليم وتبادل المطلوبين، والإنتربول العربي، والتفاهمات الأمنية، واتفاقات مكافحة الإرهاب التي يتم التوصل إليها تحت مظلة جامعة الدول العربية، ليس لمواجهة أخطار أمنية حقيقية ومشروعة، بل لاستعراض القوة في ملاحقة أصحاب رأي وكلمة.
من الضروري والواجب التعامل بجدّية مع ملف تسليم عبد الرحمن يوسف القرضاوي، ومواصلة حملات الدعم له بشتى الطرق، حتى إطلاق سراحه وإعادته إلى تركيا حيث يقيم، وإلا ستتحول هذه السابقة الخطيرة إلى عادة متكرّرة من دون رادع، وتنجح في فرض حالةٍ من الرقابة الذاتية، وسط الكتاب، والنشطاء، والإعلاميين، تتجاوز حدودها الدول التسلطية العربية.
المصدر: العربي الجديد