سامر خير أحمد
يروج خطاب بين الأردنيين يحتج على إنكار دور بلدهم في قضايا أمته العربية، أو عدم تقديره على الوجه الذي يكافئه ويناسبه. جديد تجليات ذلك الخطاب أن امتعاضاً عاماً ساد وسائل التواصل الاجتماعي لأن نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خليل الحية شكر دولاً عربية وغير عربية كثيرة لدعمها الشعب الفلسطيني في غزّة خلال معركة طوفان الأقصى، ولم يذكر الأردن ولو بكلمة واحدة في خطابه عقب إعلان اتفاق وقف إطلاق النار، رغم المؤازرتين المعنوية والمادية اللتين قدمهما الشعب الأردني لشقيقه الفلسطيني طوال شهور الحرب الطويلة.
يردّد الأردنيون مثلاً شعبياً يشبّه بلادهم برغيف خبز الشعير، من حيث أنه “مأكول مذموم”؛ فقد اعتادوا تقديم المساندة للشعوب العربية في ملمّاتها: الفلسطيني والسوري واللبناني والعراقي، لكنهم (من وجهة نظرهم)، لم يجدوا التقدير والثناء في معظم الأحيان حيال مواقف نبعت من انتمائهم المتجذر للأمة العربية؛ الذي يجد معه الأردنيون أن كل قضية عربية تخصّهم تماماً كما لو أنهم جزء منها. وعلى هذا، تجدهم منخرطين في دعم قضايا العرب السياسية، بل وقضاياهم غير السياسية، حتى لو كانت انتخاب مرشّح عربي لمنصب دولي ما أو فوزه بجائزة ما. ومن هنا بالضبط يصدر استغراب الأردنيين من أنهم قد لا يجدون التقدير والدعم حين يحتاجونه ولو بكلمة طيّبة أحياناً، ولا الاهتمام والانخراط بمسائلهم كما يفعلون هم مع أشقائهم، بل يستغربون كثيراً لأن بعض العرب يقولون لهم “ما شأنكم أنتم؟” حين يُبدون اهتمامهم العميق بقضايا غيرهم.
تفيض الإشكالية، برأي كاتب هذه السطور، عن الاحتجاج على إنكار دور الأردن وإهمال ذكره بين قائمة من يستحقون الثناء. إنها شعور عام بعدم الاعتراف العربي بمكانة لائقة للأردن بين أشقائه، تتوافق وما صدّره من كفاءاتٍ على مر العقود السابقة، وما يمثله من واحة استقرار في المنطقة، وما تنطوي عليه آثاره من قيمة تاريخية، وموقعه من قيمة طبيعية، وإنسانه من قيمة معرفية؛ حتى أن الأردن يعد حالياً المصدر الأول للمحتوى العربي على شبكة الإنترنت، بحسب تقارير صحافية قالت بعضها إن 75% من ذلك المحتوى مصدره الأردن.
ينخرط الأردنيون في دعم قضايا العرب السياسية، بل وقضاياهم غير السياسية، حتى لو كانت انتخاب مرشّح عربي لمنصب دولي ما أو فوزه بجائزة ما
ولا يعني هذا أن الأردنيين يريدون القول بتميز أو تفوق مقارنة بأشقائهم، بل يطلبون الاعتراف العادل الذي تحظى به دول وشعوب عربية أخرى من دون زيادة ولا نقصان، فالانطباع العام أن الأردن لا يلاقي التقدير الذي تلاقيه الدول الغنية ذات القوة المادية التي يُحسب لها حساب بسبب أوضاعه الاقتصادية غير المريحة، ولا التقدير الذي تلاقيه الدول العربية المعترَف بأثرها التاريخي، حتى لو لم تكن ذات قوة مادية؛ مثل مصر وتونس. ولا علاقة للأمر هنا بالمساحة ولا بعدد السكان، إذ إن تونس على سبيل المثال قريبة من الأردن في مساحتها وسكّانها.
لو حللنا الأمر على هذا النحو الذي يُقارن فيه الأردن بالدول الغنية والأخرى ذات الدور التاريخي والثقافي، لأدركنا أن مشكلة “صورة الأردن والأردنيين” تكمن في افتقاد البلاد قوة ناعمة تحجز لها في الوجدان القومي مكانة تكافئ ما تتوفر عليه من قيمة مضافة للعالم العربي. والحق أن الأردن لم يشتغل على هذه المسألة على مر العقود، وتلك نقطة ضعفٍ حقيقية في أداء الدولة التي بلغ عمرها مائة عام قبل أربع سنوات، فقد كان بإمكانها ترويج نفسها وأبنائها على نحو أفضل، لكنها لم تفعّل “ماكينة إعلامية” يمكنها أن تتبنى فنانين أردنيين ذوي قيمة في الفنون البصرية مثلاً، أو كتّاباً ومفكرين بارزين بحيث يرتبط اسم الأردن بعطائهم وأثرهم الثقافي في المنطقة العربية، أو صانعي محتوى على مواقع التواصل الاجتماعي في أبواب المعرفة التي يهتم بها الشباب العرب، وغير ذلك من مبادئ صناعة النجوم التي تعكس ضياءها على كل البلاد. بل إن ترويج المواقع الأثرية الرئيسية كالبترا لا يتناسب وأهميتها، ولا يتحلى بالكفاءة التي كانت ستحظى بها لو عمل الإعلام الأردني جاهداً بالدرجة التي تحتاجها البلاد لتصنع لنفسها قوة ناعمة من خلال الثقافة والسياحة والتعليم، تعوّضها عن غياب القوة المالية.
مشكلة “صورة الأردن والأردنيين” تكمن في افتقاد البلاد قوة ناعمة تحجز لها في الوجدان القومي مكانة
كان مسيئاً، على سبيل المثال، أن شاباً أردنياً مشهوراً هو اليوتيوبر أحمد أبو الرب الذي يتابعه ملايين على الإنترنت، ذهب إلى دمشق لتصوير فيديو بمناسبة نجاح الثورة السورية، فأرسله بعض من سألهم إلى “التل” قائلين له إنه جبل قاسيون. ولما انتشرت تلك المزحة السخيفة على مواقع التواصل الاجتماعي، تردّد بين معلقين سوريين أنه جاء إلى بلادهم “لكي يعمل ترند على ظهر السوريين”، وكأنه يحتاجهم لكي يصبح مشهوراً وهو من هو على “يوتيوب”. لم يأخذ هؤلاء في اعتبارهم أن ذلك الشاب فرح حقاً من أجل أشقائه، وذهب إليهم لمشاركتهم الفرح ونقله إلى متابعيه. كل ما قرأوه أنه “يريد استغلاهم”. أيُّ تصغيرٍ وعدم اعتراف هذا؟
الأردن هو الذي “يصغّر أكتافه” لأن حكوماته المتعاقبة لم تفهم هذه المشكلة، أو ربما فهمتها ولم تُحسن التصرّف حيالها، أو ربما فهمتها وعرفت كيف تتصرّف بشأنها لكنها لم تكن من بين أولوياتها. والنتيجة أن الأردنيين يدفعون الثمن في محيطهم العربي، ويندهشون كثيراً: لماذا لا يقدّر العرب حضورنا بينهم؟ ولماذا لا ينخرطون في قضايانا ولا يشجعوننا كما نفعل نحن؟
المصدر: العربي الجديد