د . مخلص الصيادي
بعد أكثر من خمسة عشر شهرا على العدوان “الإسرائيلي ـ الغربي” على غزة، استخدمت فيه كل أنواع الأسلحة التي أنتجتها دول ذلك العالم، وبعد أكثر من ستة وأربعين ألف شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء والمدنيين ـ وما زال هناك الآلاف تحت الأنقاض ـ، إضافة إلى مئة وعشرة آلاف مصاب، وبعد تدمير ممنهج وكامل لمختلف مظاهر الحياة في قطاع غزة، لم يجد المعتدي بداً من القبول بوقف إطلاق النار، كاشفا بذلك عجزه عن تحقيق أي من الأهداف الرئيسية المعلنة لعدوانه الوحشي والمتمثلة في تحرير من يدعوهم ب” الرهائن”، وعجزه عن القضاء على حماس، وعجزه عن فرض إرادته على الفلسطينيين بالتهجير، وعلى الدول العربية المحيطة بفلسطين بقبول الحلول التي يريدها للشعب الفلسطيني.
الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الطرفين بوساطة مصرية قطرية أمريكية هو وحده الذي ضمن إطلاق سراح من تبقى من أسرى العدو مقابل إطلاق سراح محتجزين وأسرى وسجناء فلسطينيين في سجون الاحتلال، وذلك وفق خارطة طريق تضمن تنفيذ بنود الاتفاق، بما في ذلك انسحاب قوات الاحتلال وعودة المهجرين وإعمار المناطق التي دمرتها العدوان.
تفاصيل كثيرة مما تضمنه الاتفاق الذي سيبدأ تطبيقه يوم الأحد 19 / 1 / 2025 ستظهر تباعا، وقد يبقى بعضها طي الكتمان لبعض الوقت، وسيحاول العدو التملص من تنفيذ بعض ما تعهد به في الاتفاق بخصوص حدود الانسحاب، وطبيعة المفرج عنهم من الأسرى الفلسطينيين، وعودة المهجرين، وتفاصيل أخرى، وسيفاجأ الإسرائيليون بأنهم سيستلمون رهائن أحياء وآخرين جثثا، وسيشيرون بأصابع الاتهام والمسؤولية إلى حكومتهم التي أصرت على الحرب والعدوان سبيلا لتحرير الرهائن، ثم عجزت عن تحرير أي رهينة، بل تسببت بمقتل العديد من هؤلاء الأسرى.
كذلك سيكتشف الإسرائيليون تدريجيا العدد الحقيقي لقتلاهم وجرحاهم في هذه الحرب، وهو ما كانت حكومة بنيامين نتنياهو، وقيادة قوات الاحتلال تتحفظ على إعلانه كيلا يؤدي ذلك إلى انهيار إضافي في معنويات القوات الإسرائيلية ـ سواء كانت هذه القوات في ساحات القتال أو كانت على ” دكة الاحتياط”ـ، واكتفت بالقول إن عدد القتلى تجاوز 2570 قتيلا والجرحى 7200 جريح. مع الاعتراف أن هذا العدد لا يتضمن قتلى “المرتزقة” الذين تدفقوا على الكيان منذ تنفيذ عملية “طوفان الأقصى”، وهم بعشرات الألوف من مختلف أنحاء العالم. وهذا الرقم الإسرائيلي المعلن هو دون الحقيقة بكثير، ولن يستطيع قادة العدو الاحتفاظ بسرية العدد الحقيقي لقتلاهم طويلا.
وسيكتشف الإسرائيليون بالتدريج أن حكومتهم عرتهم تماما أمام شعوب العالم، وأظهرت هذا المجتمع المصطنع على حقيقته كمجتمع عنصري إمبريالي مزروع في المنطقة، لا يستطيع أن يفعل شيء إلا بقدر ما يقدم له من دعم مادي وعسكري وبشري من تلك الدول التي أنشأته.
وسيكتشف الإسرائيليون أن إعلامهم الداخلي خدعهم منذ بدأ هذا العدوان، وأن كل التبريرات التي عرضت عليهم، وكل التغطية التي قدمت لهم، وكل الوقائع التي تعاملت معها صحافتهم وأجهزتهم الإعلامية كانت تقدم جزءا من الحقيقة، ولأن الحقيقة لا تتجزأ يصبح تقديم الجزء نوع من التزوير والخداع.
وحين يتوقف صوت القصف والقتل سيكتشف الإسرائيليون أن شعب غزة الفلسطيني الذي تصدى بمجاهديه الأبطال، وبالصدور العارية لأبنائه أطفالا ورجالا ونساء، هو نوع لا عهد لهم بمثله، ويحمل قيما للحياة والتضحية يستحيل عليهم فهمها، وأن الانتصار عليه مستحيل، وأن الهزيمة أمامه هو الفعل الوحيد العاقل.
وبغض النظر عن ترتيبات وضع السلطة القادمة في قطاع غزة، فقد أثبتت حركة حماس والقوى الجهادية معها أنها جميعا رقم يصعب تجاوزه، وأنها خيار شعبي ووطني متجذر في حياة الناس، وأن ما سمح للمجاهدين بالاستمرار في القتال، بكفاءة لم تتزعزع هو احتضان أهالي غزة لهم، وانتماء هؤلاء المجاهدين إلى روح الحقيقية الأصيلة لأهل غزة، وفلسطين.
الثمن الذي دفعته غزة مجاهدين وقادة عظاما، وشعبا، ومظاهر حياة ومدنية، ضخم جدا، لكن فلسطين تستأهل ذلك، والتصدي للمشروع الصهيوني يستأهل ذلك، وتقديم المثل الحي لمفهوم الجهاد والمقاومة لكل الأمة العربية شعوبا ونظما ولكل العالم، يستأهل ذلك، وإظهار عجز الكيان وحلفائه عن تحقيق أهدافهم أمام قوة مقاومة محدودة في العدد والعدة والمكان يستأهل ذلك.
من يستمع إلى ما قاله أهالي غزة مع الإعلان عن التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وكيف كانوا يحيون أبطال المقاومة وقادتها ويؤكدون العزم على متابعة طريق العزة والكرامة، يدرك تماما أن المستقبل لهؤلاء، وليس لأولئك… المستقبل لهؤلاء الذين تمسكوا بالأرض وبالمقاومة فيما كانت السماء وعلى مدى خمسة عشر شهرا تمطر نارا وحميما لا يبقى ولا يذر، وليس لأولئك الذين ـ مع أول صواريخ تطلقها المقاومة توجهوا إلى المطارات والسفارات يبحثون عن طريق لمغادرة هذه الأرض.
نحن المنتمين إلى الأمة العربية والشعب العربي يعترينا الكثير من الخجل والألم أننا لم نستطع أن نقدم لغزة ولفلسطين في محنتها على مدى خمسة عشر شهرا بعضا مما كان واجبا علينا، ويتعلل كثير منا بأنظمة القمع والاستبداد التي تتحكم بحيواتنا في بلداننا المختلفة، ورغم صحة ذلك العذر إلا أنه غير كاف، ولا يجوز الركون إليه…. إن تقصيرنا كبير، لا يغطيه عذر ويكفيه اعتذار.
التحية لشهداء غزة وفلسطين، التحية لأبطال الجهاد والصمود في غزة، وكل الشهداء أبطال، التحية للشهيد إسماعيل هنية، وللشهيد يحيى السنوار، ولإخوانهما والقائمة تطول، ولرفاقهم من قادة هذه المرحلة سواء عرفنا أسماءهم أم جهلناها.
التحية للمجاهدين الممسكين بسلاحهم، كانوا وما زالوا، يقدمون للجميع عنوان النصر والظفر والثبات، ويفتحون لهم الطريق.
نحن في سوريا ـ وقد تخلصنا من نظام الاجرام الأسدي ـ نتطلع إلى فلسطين باعتبارها عنوانا لانتمائنا وقيمتنا وبوصلة لتوجهنا وخيارنا، ونقدر ما أنجزه المجاهدون والمقاومون في فلسطين وفي غزة منذ انطلاق ” طوفان الأقصى”، وندرك دور ذلك الإنجاز وأثره في نصرنا الذي تحقق في دمشق، وأن لفلسطين في بلاد الشام شعبا وتاريخا وتكوينا وعقيدة مكان الصدارة.