بيار عقيقي
“لبنان بدّو يمشي”، هكذا لخّص رئيس البرلمان اللبناني نبيه برّي تداعيات الزلزال السياسي العميق في بيروت عبر انتخاب رئيس الجمهورية جوزاف عون في التاسع من يناير/ كانون الثاني الحالي، ثم تسمية رئيس محكمة العدل الدولية القاضي نواف سلام رئيساً مكلفاّ لحكومة العهد الأولى في 13 يناير الحالي. جاء كلام بري في سياقات فهم خطوات حركة أمل، التي يقودها، وحزب الله، بعد ترددّهما في انتخاب عون في جلس الانتخاب الرئاسية، ثم رفضهما تسمية أي أحد لرئاسة الحكومة، ومقاطعتهما الاستشارات النيابية غير الملزمة مع سلام. أظهر بري فهمه العميق لعناوين المرحلة المقبلة، التي يُمكن تلخيصها بالاندفاعة العربية والدولية إلى لبنان، وإبداء الدعم لإعادة إعمار ما تهدّم في العدوان الإسرائيلي على لبنان في الأشهر الماضية، فضلاً عن دعوة المجتمع العربي والدولي لبنان لاعتماد الإصلاحات المتعلقة بمعالجة الأزمة المالية المستفحلة منذ 2019. في هذه العجالة، كان لافتاً تصريح حاكم مصرف لبنان المركزي بالوكالة وسيم منصوري، أول من أمس الخميس، عن “ارتفاع احتياطي (المصرف) المركزي 300 مليون دولار منذ انتخاب رئيس الجمهورية”، أي في غضون سبعة أيام.
بالعودة إلى كلام برّي، كان حاضراً في عام 1992، حين قرّر المسيحيون مقاطعة الانتخابات النيابية الأولى بعد الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990). وقتها كان شعور الهزيمة والإحباط لدى المسيحيين بسبب خسارتهم الحرب مهيمناً، لكن المجتمع الدولي والعربي كان أكثر انشغالاً بإفرازات مؤتمر مدريد للسلام (1991)، وانهيار الاتحاد السوفييتي (1917 ـ 1991)، وتداعيات حرب تحرير الكويت من العراق (1991)، وذلك في ظل ذروة الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 ـ 1993). كذلك، فإن لبنان كان قد أطلق “ربيعه” لإعادة إعمار ما تهدم في تلك الحرب. لم يكترث أحد للمقاطعة المسيحية للانتخابات النيابية، بل وُجّهت لهم النصائح بالانخراط في صلب النظام اللبناني الناشئ من الحرب، ضمن اتفاق الطائف الموقع في عام 1989. تأخّر المسيحيون لإدراك ذلك، حتى عام 2005 مع انسحاب الجيش السوري من لبنان إثر اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري. يعلم برّي أن آخر ما تريده الطائفة الشيعية حالياً الخروج من النظام، أي من الطائف، واستنساخ التجربة المسيحية.
ومع أنه ارتبط بمواقف حزب الله في استحقاقي رئاسة الجمهورية والحكومة، إلا أن برّي لن يكون بوسعه مواصلة الابتعاد عن المسار الجديد للبلاد، لأن أثمان ذلك ستكون مكلفة سياسياً وشعبياً، له ولحزب الله. بالتالي، لا يصحّ الحديث عن إقصاء وإلغاء، في ظلّ نظام الطائف، الضامن الأساسي للجماعات اللبنانية، ومن أبرز الموانع، فيما لو طُبّق فعلياً، لمنع تجدّد الصراعات بين اللبنانيين مستقبلاً.
في المقابل، فإن الصورة الأكبر تظهر من خلال التسارع الدولي والعربي إلى لبنان وسورية، وسط تتالي الوعود بشأن إعادة البناء وتفعيل الدورة الاقتصادية في البلدين وصولاً إلى مواكبتهما في الخطوات السياسية والإصلاحية. وهو ما من شأنه أن يتيح فرصاً جوهرية في الشق اللبناني للخروج من الأزمات المتلاحقة منذ عام 2019، وبدء مرحلة مغايرة مستقبلاً. وهو ما تنبّه إليه برّي بقوله “لبنان بدو يمشي”، في إشارة إلى أن مصير البلاد تحدّد للسنوات المقبلة، وأن الاعتراض على ذلك، مهما كبر أو صغر، لن يفيد. مع العلم أن المسألة كانت متصلة سابقاً برفض لبنان تطبيق الإصلاحات المالية ومعالجة أزمة الطاقة فيه، رغم الفرص التي مُنحت للبلاد. لا أحد يمكنه القول إن العالم وضع يده على لبنان، فيما كانت الفرصة مُتاحة للبنانيين للخروج من أزمة صنعتها أيديهم. الآن، بات الوضع مختلفاً، ومستقبل لبنان وسورية لن يكون كما ماضيهما في العقدين الأخيرين. سنأخذ وقتاً لاستيعاب ذلك، لأن تراكمات هذين العقدين كانت مكلفة للغاية، وانطبعت في العقل الجماعي للبنانيين والسوريين. أما الآن فكل شيء سينتقل إلى مسارٍ مختلف.
المصدر: العربي الجديد