مصعب الحمادي
عندما وقف مصطفى بباب مكتبي في قلعة المضيق، أواخر عام 2013، شعرت بالرّعب لأول وهلة، فقد رأيت مقاتلاً يرتدي اللباس الميداني الكامل لتنظيم الدولة (داعش)، وما إن اقترب الشاب وسلّم عليّ بأدب حتى تذكرته، إنّه مصطفى عطيّة، أحد طلابي النابهين في دروس اللغة الإنكليزية في ثانوية قرية الحوّاش بمنطقة سهل الغاب غربي حماة، عام 2008.
كان مصطفى تلميذاً وادعاً خجولاً، وذا بنيةٍ جسديةٍ رقيقة، وصوتٍ رخْوٍ ومتردّد، نظرت إلى الشاب الذي أمامي في المكتب فرأيتُ شخصاً آخر.. لقد كبر مصطفى! كبر وتغيّر حتى أصبح رجلاً بملامح ذكورية عنيفة، وعينان تبرقان بالغضب، كبر مصطفى وصار -كما قدّم لي نفسه- الأمير العسكري لتنظيم الدولة في ريف حماة الغربي.
بدا مصطفى مرتبكاً جداً في أثناء جلوسه معي، ففي قلعة المضيق حاجزٌ كبير لجيش النظام لم يبعد إلا مئات الأمتار عن مكتبي، كان في جعبة الفتى رسالةً أدّاها بسرعة وانصرف.
قال مصطفى إنّ لديه أمراً باختطافي على أحد الطرق خارج مدينتي تجنباً للبلبلة، وسبب هذا الأمر أن الدولة الإسلامية -كما أوضح الفتى- استفادت من تجاربها بالعراق ولن تتسامح مع المنتقدين لها أبداً، لكنّ مصطفى أردف أنه ما يزال يكنّ لي الحُبّ والاحترام، فنصحني هَمساً بالتزام الصمت أو مغادرة البلاد.
أخذت بالجزء الثاني من النصيحة وغادرت البلاد فنجوت، لكنّ مصطفى لم ينجُ! فقد قُتل بقصف للتحالف الدولي على قوات “داعش” في الرقة، عام 2015.
في عام 2010، انتقلتُ إلى ثانوية قرية الحويز في نفس المنطقة، كان الطلّاب هناك أقلّ تقبّلاً لتعلّم اللغة الإنكليزية من طلّاب قرية الحوّاش، باستثناء طالبٍ واحد هو علّام عبود الأخ الأصغر لـ حسّان عبّود مؤسس حركة أحرار الشام.
كان علّام تلميذاً حادّ الذكاء ومتفوقاً في كلّ الموادّ، حتى في اللغة الإنكليزية، وكان يحلم بأن يدرسها في الجامعة، وممّا حبّبني بعلّام أكثر أنه كان من بيت علمٍ وأدب، أخلاقه عالية، وثقافته أكبر من عمره.
أذكرُ أني طلبت من علّام، منتصف العام 2011، أن يصطحبني معه إلى بيت عائلته في جوار المدرسة لتهنئة أخيه الأكبر حسّان بالخروج من سجن صيدنايا، وأذكر أني رأيت في بيت العائلة المتواضع مكتبةً كبيرةً لم أر مثيلاً لها في كل بيوت سهل الغاب التي دخلتها.
لا أعلم كيف تتبدل مصائر الرجال بكل تلك الحدّة، فقد صار الأخ الأكبر لعلّام مؤسساً لأهم وأكبر تنظيم سلفي جهادي في الثورة السورية، وسحب معه إخوته وأقرباءه وجيلاً كاملاً من أبناء سهل الغاب وشباب سوريا، كان علّام تلميذي من بين أولئك، فقد تبوأ منصباً قيادياً في حركة أحرار الشام الإسلامية.
في شهر أيلول 2014، استهدف تفجيرٌ غامضٌ مقر قيادة حركة أحرار الشام في إدلب، قُتل علّام بالتفجير وقُتل معه أخوه حسّان، بالإضافة إلى نحو أربعين قائداً من قادة الصفين الأول والثاني في الحركة.. أذكر أن دمعةً نزلت من عيني حزناً يوم أتاني خبر مقتل علّام ذلك التلميذ النابه الذي كان يحلم بدخول قسم اللغة الإنكليزية في الجامعة.
لم تكن شخصياتهم على مقاعد الدراسة تحمل أدنى خبرٍ عن مصائرهم المهولة، وحتوفهم التي كانت تترصد بهم، ولم يكن أحدٌ منهم يقصد أن يموت، فقد كنت أرى كيف كانت عيونهم السود تحدّق في حقول القمح الممتدّة إلى اللانهاية..
عندما كنت أرتاد ثانويات الحوّاش والحويز وقلعة المضيق في منطقة الغاب بين عاميّ 2008 و2011، كنت أجد قبالتي فتياناً يملؤهم الطموح والأمل، وتحرّكهم طاقة الحياة الدافقة، وتسكن ملامحهم وداعة أبناء الحقول، وكرم طباعهم وسماحتهم، لم أكن أعلم أني أمرّ على كتائب من المقاتلين الذين سيبتلعهم أتون الحرب، وتنتهبهم الدعايات السلفية المتطرفة، تساعدها في ذلك مجازر النظام بحقّ أهلهم من جهة، وتخلّي العالم عنهم من جهةٍ ثانية.
بالإضافة لكلّ من علّام ومصطفى أذكر العشرات من تلاميذي ممّن ماتوا مقاتلين في صفوف جبهة النصرة، وتنظيم الدولة، وحركة أحرار الشام، منهم مَن مات بعملياتٍ انتحارية، ومنهم بتفجيراتٍ واغتيالات، ومنهم في ساحات المعارك، منهم مَن قتلهم النظام، ومنهم مَن قتلهم التحالف الدولي، ومنهم مَن قُتلوا في معارك داخلية بين الفصائل.
لم تكن شخصياتهم على مقاعد الدراسة تحمل أدنى خبرٍ عن مصائرهم المهولة، وحتوفهم التي كانت تترصد بهم، ولم يكن أحدٌ منهم يقصد أن يموت، فقد كنت أرى كيف كانت عيونهم السود تحدّق في حقول القمح الممتدّة إلى اللانهاية، كانوا يفرحون لمرأى السنابل وقد اصفرّ لونها واقترب حصادها، كانوا ينتظرون الموسم، لكن الحقول احترقت، والتهمتهم النيران.
فإلى ذكراهم الغالية نهدي انتصار ثورة الكرامة وولادة سوريا الجديدة.
المصدر: تلفزيون سوريا