غازي دحمان
نشرت “العربي الجديد” قائمةً بأسماء المغيّبين الفلسطينيين في فترة حكم نظام بشّار الأسد. القائمة نظّمتها السفارة الفلسطينية في دمشق بناء على تبليغ الأهالي عن أبنائهم المفقودين، ورغم أن العدد بلغ حوالي 1800 مفقود، إلّا أن العدد الإجمالي أكبر بكثير، إذ إن عائلات كثيرة لم تبلّغ عن أبنائها، إما بسبب وجودها في الخارج وعدم معرفتها بمبادرة السفارة، أو ربّما بسبب حالة اليأس والإحباط من أن تكون هذه الآلية فعّالةً في الوصول إلى الأبناء المفقودين. إلّا أن هذه القوائم تكشف جزءاً من كارثة فلسطينيي سورية، التي تقاسموها مع السوريين بيد نظام الأسد الهارب.
من يعرف خريطة العائلات في مخيّمات اللجوء الفلسطيني في سورية ستبرز له على الفور عدّة حقائق، أن الكارثة لم تستثنِ أيّاً من العائلات وفروعها الأصغر، إلى درجة أنه لم ينجُ بيت فلسطيني من الألم والحزن، كما تركّزت عمليات القتل والتغييب بدرجة كبيرة في جيل الشباب، رغم أنها لم تستثنِ الفئات الأخرى، وكان مخيّم اليرموك أكثر المخيّمات فقداً لأبنائه، لأسباب متعدّدة، منها أنه المخيّم الأكبر، وبسبب جغرافيته الواقعة بين دمشق والغوطة الشرقية ومنطقة سيطرة المليشيات الشيعية في السيدة زينب.
هناك معلومات مؤكّدة عن تغييب مئات الفلسطينيين، أفراداً وعائلات في مجازر حي التضامن، بحكم ملاصقته مخيم اليرموك، وكان الحاجز عند بوابة المخيّم مسؤولاً عن تسليم العدد الأكبر من هؤلاء إلى جزّاري “التضامن”، كذلك حاجز علي الوحش، الذي شهد أكبر مجزرة حصلت في دمشق وريفها، يوم أعطت المليشيات الأمان للسكّان المحاصرين الذين أنهكهم الجوع والبرد والعطش، وعندما وصلوا إلى الحاجز، الذي يبعد بضعة كيلومترات عن المخيّم، قُتِل المئات، فامتلأت المنطقة بالجثث، فيما اختفى عدد أكبر، ولم يعرف مصير هؤلاء حتى اللحظة.
كانت للشباب الفلسطيني أشواق الحرّية التي كانت لدى السوريين، والتطلّعات نحو مستقبل أفضل
لكن الأمر ليس مقتصراً على الحواجز، الاعتقالات وتغييب الفلسطينيين بدأ في مرحلة مبكّرة من الثورة، وتصاعد مع تطوّر أنماط مشاركة الفلسطينيين فيها، وفي مراحل حدّدتها التغيرات التي كانت تطرأ على الثورة. المرحلة الأولى هي المشاركة في المظاهرات، وفي هذه المرحلة المبكّرة انخرطت الفئات الطلابية الفلسطينية في الثورة، طلاب الجامعات والثانويات والخرّيجين من هم تحت سنّ الثلاثين، بالإضافة إلى العمّال من مختلف المهن. في دمشق مثلاً كانت المشاركة في مظاهرات الميدان وداريّا ودوما.
وفي المرحلة الثانية، كان الانخراط في العمل الإغاثي، وقد بدأت تفرض نفسها في نهاية 2011، وفي البداية أخذت طابع إيصال الدعم إلى المناطق التي شهدت حصارات، وكانت الإغاثة تتم تحت غطاء إيصال المساعدات إلى مخيّمات درعا وحمص وحماة، وتهريب المساعدات ما أمكن إلى المناطق المحاصرة في هذه المدن، وقد جاءت أعداد كبيرة من أبناء تلك المناطق إلى مخيّم اليرموك، وفي الفترة نفسها، لجأ أهل أحياء جنوب دمشق، التضامن والحجر الأسود والقدم والعسّالي وسبينة، بالإضافة إلى جزء من ناشطي دمشق وريفها، إلى مخيّم اليرموك. في هذه المرحلة، اعتقلت أجهزة النظام الفلسطينيين عشوائياً في محاولة لجمع المعلومات عن منظومة الإغاثة، والأشخاص، والجهات المنخرطة في هذه العملية.
وشملت المرحلة الثالثة تقديم الدعم اللوجستي للثوار في الغوطة، لا سيّما الغوطة الشرقية الملاصقة للمخيّم. في هذه المرحلة كانت كتائب الثوار في بداية تشكيل هياكلها، وقد حضر جيش أبابيل حوران، وكان أوّل تشكيلات الجيش الحرّ، وأقام في الغوطة الشرقية، وشكلّ “اليرموك” لجاناً سرّيةً لجمع التبرّعات والمواد الضرورية، من طعام ولباس وسواها، لدعم هؤلاء الثوار. ثمّ، مرحلة تفريغ “اليرموك”، وهي المرحلة التي شهدت مجازر علي الوحش و”التضامن”، ومرحلة الموت جوعاً، واحتجاز الأشخاص أثناء تلقّيهم المساعدات.
فصائل فلسطينية أيّدت نظام الأسد كانت مهجورةً من الفلسطينيين
لكن السؤال لماذا كان هذا الانخراط الفلسطيني في تفاصيل الثورة السورية ويومياتها وشؤونها؟ … لم يكن جواب هذا السؤال يعرفه حتى سوريون كثيرون في المناطق التي لا يوجد فيها فلسطينيون، والحقيقة أن هذا الانخراط يرجع إلى عدّة عوامل، كان من السهل ملاحظتها، منها التشابك بين المجتمعات الفلسطينية والسورية المتجاورة، نتيجة المصاهرة والاختلاط في المدارس الثانوية والجامعات، والتشارك في المنطقة. في دمشق مثلاً، كان الفلسطينيون والسوريون جيراناً في مخيّم اليرموك والحجر الأسود والتضامن وسبينة والقدم. وفي السنوات الماضية، انتقلت أعداد من الفلسطينيين إلى السكن في دمّر وقدسيا وصحنايا والتلّ وغيرها من مناطق دمشق، وكذلك الأمر في درعا وحمص واللاذقية. أيضاً، تعرّض الفلسطينيون في سورية قبل الثورة إلى ظلم كبير من نظام الأسد، إذ يندر أن يوجد في سورية ناشط فلسطيني أو مثقّف أو مهتمّ بالسياسة لم يتعرّض للسجن والملاحقة. ورغم وجود تنظيمات وفصائل كانت تؤيّد نظام الأسد، إلا أنها في الغالب كانت تنظيماتٍ مهجورةً من الفلسطينيين، ومعزولةً إلى حدّ بعيد، وكانوا يصفونها بـ”الدكاكين”. كما كانت للشباب الفلسطيني أشواق الحرّية التي كانت لدى السوريين، والتطلّعات نحو مستقبل أفضل.
حمل الفلسطينيون أحزانهم، وانتشروا في بلاد اللجوء القريبة والبعيدة، ونزحت أعداد كبيرة منهم إلى إدلب وضواحي دمشق، لكنهم جميعاً ظلّوا مشدودين إلى سورية، التي احتضنت عوالمهم بحلوها ومرّها، كما احتضنت قبور أحبّتهم الذين قتلهم نظام الأسد (أكثر من خمسة آلاف شهيد فلسطيني)، وحيث أحبّتهم الذين غيّبتهم السجون، ففُقِدت أخبارهم. واليوم، يعيش فلسطينيو سورية نكبةً مركّبةً، فبالإضافة إلى فقد الأبناء، ضاع البيت والشارع والذكريات، بعد أن باتت غالبية المخيّمات ركاماً غير صالحة للعيش.
المصدر: العربي الجديد