عبير نصر
من الهامش إلى قلب المشهد السياسي الملتهب، سرعان ما قفزت تحرّكاتٌ مضادّة لنبض الشارع السوري العام، مستغلةً وصول السلطة الجديدة دمشق، وهي طفرة اجتماعية عادة ما تتمخّض من فراغ سياسي هائل، فتتحوّل بعض الساحات السلمية ميادينَ للتخوين والاقتتال. ولنا أن نشير إلى الاعتداء على وقفة مطلبية دعت إليها قبل أيام حركات وقوى مدنية في مدينة طرطوس، للمطالبة بإيقاف التسريح من الوظائف والاعتقال التعسفي، وأيضاً التنديد باستمرار المجازر، لتُفضّ التظاهرة بعد هجوم تجمّع مدني آخر رفع شعارات مناهضة، لم تخلُ من اتهاماتٍ طائفية، قبل أن يُهاجِم المحتجّين جسدياً. هذه الصدامات ذات الصلة إذا ما غُذّيت بسموم الشحن الطائفي، وبُرِّرت بدوافع مشروعية الصراع على الهيمنة، ستقود حكماً إلى حرب شوارع مُعلَنة. ومن الحكمة حينها اللجوء إلى سياسة “القوة الناعمة” لمنع إشعال فتيل المواجهة، من قبيل الفيديوهات التوعوية ومنتديات السلم الأهلي وحوارات المواطنة، وبالطبع استراتيجية الملصقات.
خذ مثالاً، عندما انتشرت ملصقات تدعو النساء السوريات إلى “الحشمة” وارتداء النقاب فقط، من دون مراعاة التنوّع السوري الهائل، ما دفع كثيرين إلى التساؤل بشأن نوع الدولة التي تتجه إليها سورية، لم يتوقّف الأمر عند حدود التساؤل المشروع، بل غصّت شوارع المدينة بمنشوراتٍ مضادّة أكّدت حقّ النساء في اختيار ما يلبسن من ثياب من دون ممارسة أيّ ضغوط قاهرة. وعليه، ووسط المشهد الملتبس والباعث على القلق، ثمّة وجه مضيء في حروب السوريين الناعمة المذكورة آنفاً، لأنها تعكس حيوية المجتمع السوري وقدرته على تكييف الأفكار في الحراك السياسي، تنبع من القراءة العميقة لحساسية الواقع، وتستتبع تغيير التكتيكات وفقاً لجملة الأهداف المتّفق عليها، وفيها أيضاً رمزية بالغة التأثير لجهة تظهير وجهٍ مدني رافض لكلّ ما هو منافٍ للروح السورية، ولكلّ الاصطفافات الشاذّة، التي نجمت عن صدمة ما بعد السقوط المفاجئ لنظام الأسد.
الملصقات التي تناولت لباس المرأة (بوجهيها) صحيةً إلى حدّ كبير، لأنها ستفسح مجالاً لنقاش أعمق حول حرّية المرأة، ودور مؤسّسات الدولة والقوانين في حماية حقوقها وكينونتها
وفي ضوء ذلك كلّه وغيره، ورغم المخاوف من انزلاق البلاد إلى قيعان التشدّد، تبدو الملصقات التي تناولت لباس المرأة (بوجهيها) صحيةً إلى حدّ كبير، لأنها ستفسح مجالاً لنقاش أعمق حول حرّية المرأة، ودور مؤسّسات الدولة والقوانين في حماية حقوقها وكينونتها، بينما ما يزال وضع الحرّيات في سورية غامضاً، ويُثار الجدل حولها بسبب الانتهاكات والتجاوزات “الفردية”، بالتوازي مع رسائل التطمين المتكرّرة. فها هي تظهر ملصقات أخرى في مدينة اللاذقية، وثيقة الارتباط بالدعوة الممنهجة للتحريض الطائفي التي يتبنّاها بعضهم، وتدعو إلى شيطنة طائفة بعينها، ليسارع أبناء المنطقة إلى إزالة هذه الملصقات قبل أن يتمّ الردّ عليها.
بطبيعة الحال، ثمّة من يؤكّد أنّ ظهور أيّ شكل من المقاومة الناعمة دليلٌ قطعي على أنّ الوضع في حاجة إلى ثورة، وهو في الطريق إليها، وحتى لا يسقط السوريون في فخّ الجمود الذي لا يُولّد حركةً ولا ينتج أملاً، يبقى الدرس المستفاد من هذه التحرّكات، وإن اتخذ أحد طرفيها خطاباً أيديولوجياً مغلقاً، هو ضرورة التعبير السلمي، ليُطرح سؤالٌ ملحّ هنا: هل تعود حرب الملصقات في محاكاة رمزية للافتات المدن المنكوبة إبّان الثورة السورية، إذ أكد ناشطون أنّ الناطقَين باسم البيت الأبيض والخارجية الأميركية كانا ينتظران مظاهرات كفرنبل، ليسمعوا ماذا يقول السوريون في لافتاتهم، وإلى أيّ مدى بلغت آمالهم واشتدّت آلامهم؟
صدى الرموز البصرية أبلغ تأثيراً بكثير من كلام النخب السياسية المتشرذمة، كلّها مجتمعة
يدور هذا السؤال في فلك الممكن والمتاح، أمّا الجواب فيكمن في استشراف مآلات عمق الدور الذي ما زال يلعبه “الرمز” في التأثير في الناس، وكيف للملصقات ومفاعيلها في داخل نفس المتلقّي العادي أن تُحدث فرقاً ملموساً في الواقع السوري شديد التعقيد والحساسية، خاصّة أن الميدان لم يعد صالحاً للصدام المباشر تجنّباً للانجرار نحو السيناريو الأسوأ، فحرب اليوم هي حرب العقل، الذي يتبنّى لغةً بالغة التكثيف، والملصق يمكن أن يتحوّل محرّكاً ثورياً في حال كانت الكتلة التي ترفعه قادرةً على تشكيل روح جماعية تتجاوز الفجوة العميقة بين الخطاب والممارسة. ولتأكيد ما تقدّم، أثبتت حرب الملصقات فعّاليتها خلال الحرب الأهلية اللبنانية مثلاً، وشكّلت أداة في إدارة الصراع المسلّح، وأيضاً مادّة للتعبئة، فغصّت الجدران بالملصقات السياسيّة التي نشرتها جلّ الأطراف المتناحرة، بغية تعبئة أنصارها، وشيطنة أعدائها، لإثارة تعاطف شعبيّ مع قضاياها. على التوازي، وفي بداية عام 1990، شهد الملصق السياسي الفلسطيني زخماً كبيراً، ولعب دوراً دعائياً مؤثّراً في فضح جرائم العدو الصهيوني في الداخل.
وفي ضوء ما سبق، تأتي الملصقات السورية من قلب الواقعية السياسية الملحّة، بغية استيعاب التحدّيات الراهنة، كما لا يمكن في هذا المقام إغفال أهمية البعد الغائب في المشهد السوري، وهو أن ما أُخذ بالقوة لم يعد يُستردّ بالرصاص أو الدبّابة أو البراميل، بل بقوة الأفكار التي تبدو أكثر مكراً وفاعليةً ممّا قد توحي به، ولها أن تجرّ طاولة التفاوض إلى مساحة أكبر، تدعم المطالب الشعبية بشبكة واسعة من الإمكانات والاحتمالات. والملصقات ليست مجرّد شعار حالم ومارق، بل بإمكانها تشكيل جسم سياسي وازن يتصدّر مهمّة رسم ملامح الدولة السورية الجديدة، ويجعل السوريين بعمومهم يؤمنون بأنّ صدى الرموز البصرية أبلغ تأثيراً بكثير من كلام النخب السياسية المتشرذمة، كلّها مجتمعة، وربّما يعودون إلى انتظار مواعيد ظهور الملصقات التي تتضمّن استنكاراً لوقائع ومشهديات مريبة، تُلقي بسوادها على البلاد، كما حدث بعد عام 2011.
تأتي الملصقات السورية من قلب الواقعية السياسية بغية استيعاب التحدّيات الراهنة، وقد يتحول الملصق محرّكاً ثورياً
ثمّة من يؤكّد أنّ الملصق، وهو أكثر الأجناس التعبيرية إثارة وتحريضاً، كاللحن الموسيقي، لا يمكن التخلّص منه، وتتمثّل قوّته الحقيقية بالقدرة على صهر التصوّرات المثالية والوعي الجمعي في رؤية واحدة. هذا ممكن، بالطبع، رغم أنّ التركة “الأسدية” الثقيلة أدخلت السوريين في أتون تحوّلات اجتماعية وسيكولوجية شتى، زادتها تعقيداً الوقائعُ المتسارعةُ الراهنة، وربّما يُخفِّف من وطأتها الأرشيف البصري المُستقَى من لافتات كفرنبل الشهيرة، التي ابتكرت حرفة صناعة الذاكرة السورية، فوصلت متاحف ومعارض دول كبرى، وأيضاً كتابات ما عُرِف بـظاهرة “الرجل البخّاخ”، وهم شبان كانوا يتسلّلون ليلاً إلى أحياء فضاءات الأمل في الأحياء المدمّرة والمحاصرة، يكتبون عبارات تنديد لا تخلو من الرومانسية والفُكاهة، أربكت نظام الأسد وهزّت ثقته بنفسه. عبارات من قبيل: “نحن على قيد الحلم”، “لكَ شيء في هذا العالم.. فقُمْ”، تبدو نبوءة مبكّرة بما يحدث اليوم. فعلياً، تُعزِّز الملصقات سياسة الرفض أو الاحتجاج وإعادة الحسابات، لأنها ليست وليدة “الدعابة” الاجتماعية، ولا “الدعاية” السياسية، بل هي الدرع الواقي من الخوف، كذلك مساحة لحوارٍ مشروع يحتوي الهُويَّات الضيّقة للمكوّنات السورية الأقلّ انضباطاً ووعياً، من دون أن يكون لها سطوة على فرض ثنائية ملتهبة بين خطاب سلمي وخطاب آخر معادٍ وعدواني.
لا يزال المشهد السوري في بداية تشكّله، وما يدعو إلى التفاؤل أن هناك حيويةً ومرونةً كبيرتَين تطبعان المجتمع السوري، الذي كان جامداً عقوداً، أمّا الهدف من هذه التفاعلات السلمية فهو إرساء آليات للتمثيل الديمقراطي الحقيقي. من ثم ليست الملصقات السورية، وكما كانت خلال عقد الحرب الأهلية، حربَ شوارعَ مُعلَنة أو مجرّد مظاهر مارقة تظهر هنا وهناك اعتباطاً، بل ربّما علينا الجزم قائلين إنّ جدران المدن السورية المتعبة تتكلّم أخيراً.
المصدر: العربي الجديد