معن البياري
سيكون نافلاً أي كلامٍ عن الإعلام واحداً من الأسلحة في أي صراعٍ عسكريٍّ أو سياسي. ومعه أيّ كلامٍ عن التباس الدعائيِّ بالإعلامي في غضون المواجهات المسلحة والحروب الباردة والساخنة. وما تؤدّيه كتائب الشهيد عز الدين القسّام في أثناء تسليمها محتجزين لديها (من غير العسكريين حتى اللحظة) إلى الصليب الأحمر، منذ أولى هذه المراسم منذ نحو شهر، يتأطّر في الإعلام والدعاية معاً، وفي الحرب النفسية أيضاً، وهو موصولٌ، بداهةً، بالشُّغل الدعائي (والإعلامي طبعاً) الذي واظبت عليه الكتائب، وحركة حماس نفسها، ومعها، في أحيان، “سرايا القدس” التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، والتي لها سهمٌ في “7 أكتوبر” وأسر محتجزين، في بثّها “فيديوهاتٍ” عديدة، مصوّرةٍ مع أسرى غير قليلين، قضى بعضُهم قتلاً في جولات قصفٍ إسرائيليةٍ على مواقع ومنازل وأنفاق في قطاع غزّة المحاصَر. وأشهر المتحدّثون المصوَّرون فيها انتقاداتٍ شديدة لأداء رئيس حكومة العدوان، نتنياهو، في إدارة ملفّ مفاوضات اتفاقٍ يحرّرهم من الأسر. وكان تزامن بثّ بعض تلك الفيديوهات مع مظاهراتٍ إسرائيليةٍ حاشدةٍ في تل أبيب وأمام منزل نتنياهو مدروساً من كتائب القسام، ومضبوط الإيقاع، ببراعة مشهودة في استثمار كل المؤثرات العاطفية والأجواء السياسية المصاحبة لفداحة العدوان في حرب الإبادة.
ولئن اعتُبرت “مراسم” تسليم المحتجزين، بإعطائهم شهادات (وهدايا أحياناً)، مع ظهور هؤلاء في صحة طيبة، ولياقة بدنية جيدة، بل وبملابس نظيفة، استعراضاتٍ إعلامية، وهي كذلك، فإنها أيضاً، دلّت على أخلاقياتٍ عالية، ونبلٍ كبير، لدى المجاهدين المحاربين، على غير انعدام الأخلاق والحسّ الإنساني كما ظهر في المشاهد التي عوين فيها الأسرى الفلسطينيون المُفرَج عنهم من سجون الاحتلال، وكان كثيرون منهم في حال صحيٍّ سيئ، وقد تحدّثوا عن تعذيبٍ سافرٍ تعرّضوا له في الأسر عند “الوحوش” الصهاينة. وفي الغضون، بدا أن القُبلتين اللتيْن طبعَهما المحتجز، عومرشيم كوف (22 عاماً) على جبيني اثنيْن من عناصر “القسّام”، ورفعه شارة النصر، في أثناء مراسم تسليمه في مخيّم النصيرات، استفزّتا الطواقم الحاكمة في دولة الاحتلال، وأثارتا أعصاب نتنياهو شخصياً.
بدا مشهد القبلتيْن، وصاحبهما مغتبطٌ بما يفعل، شديدَ الدلالة على فائضٍ من حسن المعاملة حظي به هذا الشاب في 505 أيام أمضاها في ظروفٍ بالغة الصعوبة في الأسر. يكاد يذكّر بمشهد الأسيرة الإسرائيلية، ميا ليمبرغ، عند الإفراج عنها في هدنة الأسبوع في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، ومعها كلبُها الذي حوفظ عليه هو الآخر أكثر من شهرٍ ونصف الشهر… استنفر مذيعو القنوات الإسرائيلية، وهم يُحملقون في الواقعة المثيرة، فقال بعضهم إن تقبيل عومرشيم كوف جبيني القسّاميين “فُرِض عليه”. وهذا ليس مضحكاً فقط، وإنما استهبالٌ لكل صاحب عقلٍ ورأى المشهد بناظريْه. على ناس “حماس” أن يظهَروا “وحوشاً”، كما نعتهم نتنياهو غير مرّة، لكن فائض الإنسانية الذي بدوا عليه، وهم يودّعون أسراهم، وفي أثناء وداع هؤلاء لهم، يكذّب جبالاً من الدعاية السوداء عنهم، ويجوّف الاستطرادات المسترسلة عن “فظاعتهم”، وهم الذين “ارتكبوا” واقعة 7 أكتوبر.
يُدهشك كل هذا الأداء، المنظّم، المُتقن، بل والبارع في عديدٍ من وجوهِه، والذي ظهر عليه شباب كتائب القسّام، وهم يتمنطقون كامل سلاحهم، في أثناء “مراسم” تسليمهم الأسرى. تأخُذ الكتائب مسألة الإعلام، والدعاية في تلابيبه، بكثيرٍ من الحرص والجدّية. وطالما أن الكذب شديدُ الحقارة، الذي نشط في الأسابيع الأولى بعد هزّة 7 أكتوبر، عن قتل أطفالٍ إسرائيليين رضّع، انكشفت ركاكة دعائيّته، فإن صور الأسرى يُسلَّمون بكل احترام، وفي هيئةٍ طيّبة، بل ويحدُث أن يقبّل أحدُهم جبيني اثنيْن من آسريهم، تنضافُ إلى شغل “العلاقات العامة” النشط الذي تحرّض “حماس” على مزاولته، بكفاءةٍ فيما يبدو.
ربما هناك موانع مقرّرة لا تجعل الأسرى الإسرائيليين المُفرج عنهم يتحدّثون للإعلام عن أيام الاحتجاز الطويلة، وكيف تعايشوا مع الصعوبة القاسية في غضون حربٍ عدوانيةٍ، لكن هذه الموانع لن تدوم، ففي وُسع ميا ليمبرغ وعومرشيم كوف، وغيرِهما من زملائهما في الأسر، أن يؤلفوا كتباً عن تجربةٍ فريدة، مثيرةٍ، مرّوا بها، عسانا نتعرّف على الكيفيّات التي أدار بها عناصر “القسّام” حمايتهم من القتل وتأمين طعامهم وتدبير شؤونهم وتأمين حاجياتهم الطبيعية، وسط جحيم أهوالٍ لا توصَف… إذا عرفناها سنعرف السبب الذي جعل ذلك الشاب الإسرائيلي يُبادِر إلى تلكما القبلتين.
المصدر: العربي الجديد