أسامة عثمان
في أثناء اقتحام رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وعدد من جنوده، مخيّم طولكرم، بثّوا صورهم عن قصد من منزلٍ فلسطيني، استفزازاً وتظهيراً لإنجازات مُبالَغ فيها. ومن طولكرم، أطلق نتنياهو تصريحاته: “نحن ندخل معاقل الإرهاب، ونُدمِّر شوارع بأكملها استخدمها الإرهابيون، ونهدم منازلهم”. وأضاف (في إشارة إلى انفجار حافلات في تلّ أبيب أخيراً) أن إسرائيل عزَّزت قوَّاتها في الضفة الغربية بعد هذه التفجيرات، واصفاً محاولة تنفيذ الهجمات بأنها “تُشكِّل وضعاً بالغ الخطورة”، وفق ما نقلت صحيفة هآرتس الإسرائيلية. وفي وقت سابق، أعلن جيش الاحتلال الدفع بثلاث كتائب إضافية إلى الضفة الغربية، بعد تعليمات نتنياهو بتنفيذ “عملية قوية” في المنطقة. وعلامةً على شمول حربه على الفلسطينيين الضفة الغربية كلَّها، تزامن مقتل طفل بيد جيش الاحتلال في الخليل، جنوب الضفة، مع مقتل طفلة في جنين شمالها. وبعد إعلان إسرائيل انفجار عبوات ناسفة بحافلات عدّة في مدينة بات يام، في هجوم لم يُوقع إصابات، قرّر الجيش “تكثيف عملياته” في الضفة الغربية المحتلّة استجابةً لأمر نتنياهو بمزيد من العمليات العسكرية هناك، مع أن فصائل المقاومة نفت أيَّ صلة لها بتلك التفجيرات. وأشارت وزارة الخارجية الفلسطينية إلى أن زيارة نتنياهو مخيَّم طولكرم جرت “في ظلِّ تهجير سكَّانه بالقوة، وكذلك إجبار أكثر من 40 ألفاً من سكَّان مخيَّمات شمال الضفة على النزوح منها بقوة السلاح، تحت حجج وذرائع واهية”.
في 22 من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، وضمن ما سُمِّيت عملية “السور الحديدي” التي أطلقها الاحتلال، توجّه وزير أمن الاحتلال يسرائيل كاتس إلى مخيَّم جنين وصرّح، وفق ما نقلت عنه وسائل إعلام إسرائيلية، بأن “مخيّم جنين لن يعود إلى ما كان عليه مرَّة أخرى. بعد الانتهاء من العملية، سيبقى الجيش الإسرائيلي في المخيّم للتأكُّد من عدم عودة الإرهاب”. وفي هذه العملية المتواصلة على المخيّم، ووفق مدير شؤون وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، رولاند فريدريك، استخدمت إسرائيل أسلحةً متطوَّرة، وأساليبَ حربٍ متقدِّمة، بما فيها الغارات الجوّية، في العملية العسكرية التي تشنُّها على مخيّم جنين. وأخيراً، أعلن جيش الاحتلال أنه نقل فصيلة دبّابات إلى جنين، للمشاركة في ما سمّاه “الجهد الهجومي”، للمرّة الأولى منذ عام 2002. وهكذا، تتزايد الشواهد على أن الاحتلال يعمِّم نهجه الحربي في الضفة الغربية بعدما أمعن فيه بقطاع غزّة، وأنه يحاول أن يستنسخ أساليبه التي استخدمها هناك. ومن أبرز تلك الوقائع وأخطرها تهجير السكَّان من المخيّمات تمهيداً لتعميم التهجير على أيّ منطقة خارج المخيمات في الضفة، لتجريع الفلسطينيين والعالم مرارة هذه الصورة، فائقة الإفراط والعنصرية والاستعداء.
لا يبدو نتنياهو مهتمَّاً بحصر حربه في عمليات موضعية، بقدر ما يميل إلى تعميم الصورة، وتصوير الضفة الغربية جبهةَ حرب ناجزة
الفارق الجوهري بين الضفة الغربية وقطاع غزّة أن في غزّة مقاومةً مسلّحةً تحكم القطاع، وأنها وجَّهت ضربةً شديدةَ الإيلام في 7 أكتوبر (2023) لكامل كيان إسرائيل وجيشها، وفي الضفة هناك شعبٌ تحكمه السلطةُ الفلسطينية، وهي تعادي المقاومة نهجاً وفكراً، ولا تشارك بأيّ شكل في دعمها، أو توفير بيئة مساندة لها. الضفة الغربية يمعن فيها الاحتلال توسُّعاً واستيطاناً وخنقاً للحياة اليومية، وانتهاكات تصل لأن تكون تعليمات بالقتل لأدنى شبهة، حتى حين لا تكون هناك خطورة على حياة جنود الاحتلال، فضلاً عن تدمير مرافق الحياة بما يتجاوز بكثير محاربة المقاومين، ليطاول الناس العاديين، وحياتهم ومستقبل وجودهم. وتصعّد سلطات الاحتلال الإسرائيلي عمليات الهدم الممنهَجة في الضفة الغربية، متّبعةً سياسة “الهدم أكثر ممّا يبنون”، وفق رؤية وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، لإعاقة التوسُّع العمراني الفلسطيني وتعزيز الاستيطان. وذلك في إشارة إلى الأهداف الحقيقية للاحتلال، وأنها استهداف الوجود الفلسطيني الطبيعي بحدِّ ذاته، بمعزل عن الادّعاءات الأمنية. منسوب المقاومة في الضفة محدود إذا ما قيس بمنسوبها في قطاع غزّة، حيث لا تشهد كبريات المدن، وكثيرٌ من البلدات والقرى، نشاطات مقاومة غير عادية، وتكاد تتركّز المقاومة في مخيّمات جنين وطولكرم، وبعض مخيّمات نابلس وبلدات في محيطها، والأغلب أن قوات الاحتلال هي التي تبادر فتهاجم المقاومين في داخل تلك التجمُّعات السكنية.
بعد تفجيرات مدينة بات يام، أعلن نتنياهو تكثيف العمليات الاحتلالية في الضفة الغربية، مع أن جيشه لا يهدأ في العدوان المستمرّ، الذي تزايد منذ الحرب على غزّة، وما بعد توقُّفها، وإمعاناً في إظهار تصميمه ذهب إلى طولكرم، يلتقط صوراً له في منزلٍ فلسطينيٍّ طرَد منه أصحابه، كما أجبر ألوفاً من الفلسطينيين على النزوح من بيوتهم في مخيّمات فلسطينية أخرى، فهو يريد حرباً في الضفة الغربية، وعلى الضفة على غرار حربه على غزّة. لكن من يحارب؟ … لا تتوافر في الضفة كيانات كافية لتدشين مثل تلك الحرب، هذا مع الانتباه إلى أنه حتى في غزّة لم تكن ثمّة حرب بالمعنى التقليدي، أو المتناظر، إنما قصف هائل من الجو بقنابل وصواريخ واسعة التدمير، تنصبّ على رؤوس المدنيين، ومنازلهم، ومرافق حياتهم، ولا مضادّات لها في جانب فصائل المقاومة، التي خاضت حرباً أشبه بحرب العصابات. فاللافت أن نتنياهو لا يبدو مهتمَّاً بحصر حربه في عمليات موضعية، بقدر ما يميل إلى تعميم الصورة، وتصوير الضفة الغربية جبهةَ حرب ناجزة. وفي تصريحات لمسؤول أمني فلسطيني فإن قوات الأمن الفلسطينية أنجزت 80% من الأهداف المتعلّقة بالمقاومة في مخيّم جنين، ثمّ لم يكتف الاحتلال بما حقَّقه أمنُ السلطة الفلسطينية، ولم يتقبَّل ابتعاده عن مباشرة العدوان بنفسه، لأسباب دعائية موجَّهة إلى قواعده اليمينية في دولة الاحتلال، ولأسباب أيديولوجية يتبنَّاها نتنياهو وحلفاؤه من قادة الأحزاب الصهيونية، والدينية العنصرية.
يغلق نتنياهو الأبواب أمام أيّ حلول سياسية، ويلغي حقَّ الفلسطينيين في تقرير المصير، بل في العيش الطبيعي
ومع أن الاحتلال في مخاطباته للفلسطينيين في الضفة يحاول الإيهام بأنه لا يستهدف غير المقاومين، إلا أنه في الواقع لا يستثني من تنكيله أحداً، فهو لا يترك الفلسطيني يشعر بالاستقرار أو الأمان في أيِّ بقعة من الضفة الغربية. وإذا كان نتنياهو يُصنِّف السلطة الفلسطينية (وهي النموذج المؤسّسيُّ الأوضح في مسالمته) عدوّاً وتهديداً لإسرائيل، فأيُّ فلسطيني سواها يمكن أن يسلم مِن معاداته وعدوانه؟
المعضلة في عقلية نتنياهو، فهو يغلق الأبواب أمام أيّ حلول سياسية، ويلغي حقَّ الفلسطينيين في تقرير المصير، بل في العيش الطبيعي، ثمّ هو بالتوازي مع ذلك، يريد فرض ما يسمِّيه “الأمن” لجنوده ومستوطنيه، ثمّ بعد ذلك، يقدّم تلك الذرائع الأمنية بكامل تجلّيها على حقوق الفلسطينيين، في مزاولة مناشط حياتهم. فإذا كان تنقُّلهم الضروري وحاجتهم إلى التوسُّع العمراني مثلاً يتعارض مع أهداف الاحتلال، فإنه يمنع تلك الحقوق بالقوة والعدوان، بلا أيّ غطاء قانوني ولو مزعوم، ووقت الصراحة (أو الوقاحة)، يقول سموتريتش، الذي مُنِح صلاحيات واسعة في الضفة الغربية، إنهم يتحرَّكون بمعزل عن أيّ اعتبارات أمنية، بدوافع إجهاض الوجود الفلسطيني، أو لمنع تفوُّقه على الوجود الاستيطاني.
المصدر: العربي الجديد