أسامة عثمان
لا مبالغة في القول إن أكثر الأنظار ترقُب غزّة وأهلها، كيف ستتبلور توجُّهاتهم إزاء تحدِّيات معيشية غير مسبوقة تنتظرهم؟ وكيف سيشكِّلون آراءهم، تحت وطأة هذا التدمير الواسع لمقوِّمات الحياة؟ وهم بين عاملَيْن متصارعَيْن، مادّي، ومعنوي. غلَبة أحدهما على الآخر ليس من السهل التنبُّؤ بها، فالغزّيون في المقياس الإنساني الاعتيادي محكومون بالشروط البشرية الملحّة والطموحة، وهذا العامل المادّي في جانب منه فاعل، بمعزل عن العامل المعنوي وقوته، فمهما بلغت درجات الفخار والتحدّي، ومهما اتسعت مساحاتُ التضامن الجماعي الداخلي، فإن ذلك لا يعطّل فاعليةَ اشتراطات الحياة الفيزيولوجية؛ الطعام والماء، والعلاج، والإيواء، مع أن الإنسان يمكنه الحفاظ على حياته في الحدّ الأدنى منها، وهنا تظهر أهمية العوامل الاجتماعية الأقلّ إلحاحاً (مع أهميتها بالطبع) كالتحقّق المهني، والتحقّق الأُسَري، بالزواج، والإنجاب، والتكاثر، وقد شهدنا في عزّ الحرب والملحمة، ولو بتجليّات شبه رمزية، حالات زواج واحتفال.
قد يقال إن مَن صمد أمام تلك الحمَم الناريّة الجهنّمية، وأمام ذلك النزوح الجماعي الكبير؛ بما يعنيه من ألم الفقد؛ فقد المنزل والسكن، وآلام الشدّة والعَوز طيلة شهور الحرب وأيامها ولياليها، على مدار ما يزيد على 15 شهراً، بحرّها اللاهب في الخيام، أو ببردها الأليم وشتائها العاصف، سيتكفّل بالصمود والثبات والاحتمال في أيّام ما بعد توقّف الحرب، إذ كُفِي الناس، في المقام الأول، خطر القتل بما لا قِبَلَ لهم بردّه.
هنا والآن، وبالاعتماد على نواة صلبة مُفترَضة، يتفرّع عاملان؛ التحمّل الذاتي والتضامن الجماعي. التحمُّل الذاتي بخفض مستوى التوقّع إزاء مطالب العيش، ومستواه، والتضامن الجماعي، بالتكيّف لخفض معايير العلاقات الإنسانية واشتراطاتها، ولدى أهل غزّة اختبارات سابقة عديدة، في حروب سابقة وحصار طال، قد تكون مُلهِمة، وقد تكون لدى بعضهم مُثقِلة. هنا ببساطة الحاسم هو معنى البقاء في غزّة، والاستعداد لتحمّل هذه الغاية. كم تتوطَّن هذه الرغبة، وإلى أيّ مدىً لها في النفس قيمةٌ عُليا؟ وقوة هذا المؤثّر المعنوي ليس في مُكْنة العلم المادّي (واختباراته) أن يكشف مدياته، ونطاق فعله، ومدى صموده، بين كلِّ فرد وآخر، وَفق تكوينه نفسيّاً، بالمرونة النفسية، وقوة الأمل، والتعويل على الإرادة الإنسانية، ودينياً بما يرفده الدينُ من معاني الصبر والزهد في المادّيات، والرضا بالقليل، والأخذ بالأسباب المتاحة على قدر الطاقة والاستطاعة. والعامل الاجتماعي بالقدرة على التكيّف في تشكيل شروط أقلّ، وفي اجتراح ميكانيزمات تعويضية؛ بالدفء الجمعي، ومهارات العيش والتدبير الجماعي، وهي أمور خَبِرنا بعضها في محنٍ سابقةٍ مرّ بها أهلُ غزّة.
مهما بلغت درجات الفخار والتحدّي، ومهما اتسعت مساحاتُ التضامن الجماعي الداخلي، فإن ذلك لا يعطّل فاعليةَ اشتراطات الحياة الفيزيولوجية؛ الطعام والماء، والعلاج
أما المؤثّرات الخارجية كإعادة الإعمار وسرعته، وسهولة تنقّلات الأفراد خروجاً ورجوعاً، أو تخفيف الحصار، ووتيرة المساعدات الإنسانية ونطاقها، فقد تغدو أداةَ ضغطٍ وابتزازٍ، إذا صحّ توافق إدارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب (واستمرّ عزمه، وجِدّيته) مع مخطَّطات المتطرّفين من قادة الأحزاب الصهيونية القومية، أمثال إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، وغيرهما، وفق ما أعلنه ترامب من دعوة الأردن ومصر إلى استقبال عشرات الآلاف من الغزيّين، استقبالاً مؤقّتا أو دائماً، كما قال، مع أن الموقف المُعلَن لكلٍّ من مصر والأردن هو رفض التعاطي مع هذه المخطَّطات، التي تصادر قرار أهل غزّة الفلسطينيين، في أهمّ شأنٍ من شؤونهم، وهو علاقتهم بوطنهم وبلدهم ومكان عيشهم.
وليس يغيب عن البال أن المسار الذي ستذهب إليه غزّة وأهلها، لجهة الصمود والبقاء، أو الاستجابة لهجرة واسعة، لن يقتصر أثرُه في قطاع غزّة، بل سيؤثّر في مجمل القضية الفلسطينية، ومستقبل الشعب الفلسطيني ومصيره، مع أنه لا قياس قاطعاً ولا ترابطَ حتمياً في نتائجه، إلا أن هذا المسار إِمَّا أن يكون مُلهِماً للفلسطينيين في الضفة الغربية، أولاً، وإمَّا أن يكون مقلقاً فيُستنسَخ نموذج غزّة، ولو بأشكال مقاربة لاستمرار التضييق والتعسير على فلسطينيي الضفة الغربية، وتقليص فرص الحياة مع تهديد الأمن والنيل من أرواح الناس بيد جنود الاحتلال ومستوطنيه.
المسار الذي ستذهب إليه غزّة وأهلها، لجهة الصمود والبقاء، أو الاستجابة لهجرة واسعة، سيؤثّر في مجمل القضية الفلسطينية
مع وجود فارق لا يمكن تجاهله، وهو ما بنت عليه كلٌّ من حكومة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزّة، والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، إذ أسّست حكومة حماس لحالة مقاوَمة، وأرست معالم صمود، حتى لو لم يتفاعل مع هذه الجاهزية كلُّ أهل غزّة، فإن قطاعات واسعة (كما تدلّ الدلائل) تفاعلت معها، وانصهرت فيها، وقد يكفي للاستدلال على نجاحها هذا التجنيد الواسع لمقاتلين من أبناء القطاع، ومُنجَبين من عائلات غزّة المتنوّعة وعشائرها، وهؤلاء إذ يقدّمون أبناءهم للتضحية بأعزّ ما يملك الناس، بأرواحهم وشبابهم، ليخوضوا حرباً غير متكافئة مع عدوٍّ لا يلتزم أيَّ قيود أو حدود في وحشيته.
أمّا في الضفة الغربية، فإن المعاني التي جرت رعايتُها عمليّاً هي عوامل في أغلبها تعايشية، للمطالب الحياتية وضمان استمرارها فيها دور الأداة للصمود والبقاء، فالانتظارات التي تريدها السلطة من الشعب هي تسيير حياة أبنائه، من دون التركيز في بناء صمود مطلَق، فنتيجة توهُّم الحياة المدنية تحت حكم الاحتلال بالتوازي مع آمال (ظلَّت تخيب) بنجاح العملية التفاوضية، تراجعت آلياتُ التضامُن الجماعي في الضفة الغربية لصالح الانشغالات والطموحات الفردية التنافسية. هذا لا يعني أن الفلسطينيين في الضفة الغربية قد انتُزِعت منهم معاني الصمود الذاتي، ولكنّها لم تكن موضعَ رعايةٍ، أو أولويةً، ولذلك فإن قدرة الاحتلال على سحب تلك العوامل المادّية أو تقويضها، يترك مساحاتٍ شاغرةً، واحتياجاتٍ معتادةً، هذا مع أن الأوضاع المادّية والمعيشية ظلَّت موضع تعثّر وارتباك، وظلّ اقتصاد الضفة الغربية معرّضاً للتراجع والركود. ومع التحدّيات التي تهدّد أهل غزّة، التي تؤكّدها مواقفُ ترامب الماضية وإدارته، فإن مجرَّد عودة ألوف النازحين إلى شمال القطاع، ولو في أكثره إلى بيوت مدمَّرة ومرافق معطَّلة، حقَّق بمجرَّد حدوثه معنى الاستقرار، ودرجة من اليقين، يمكن البناء عليها، في مقابل المؤقّت، والمُقلِق.
المصدر: العربي الجديد