تتوقف فجأة لتجد نفسك في مواجهة اللامعقول كله.. والغير منطقي كله … والحرام كله.. في مواجهة هذا الكم اللامحدود من الظلم واللامبالاة والتنكر، لكل ما يدل على شيء من أعراف واخلاق وقيم.. عالم يتفق بأكمله على أن يذبح السوريون على الهواء مباشرة على يد نظام هو الأقذر والأحقر والأكثر دموية في التاريخ. في وقت يمارس فيه الدجالون أدوار العدو والصديق، وفي وقت ينظرون فيه إلى نهر دم زاخر بالآلام يتدفق من كل حدب وصوب، وفي وقت يمارس فيه الطاغية وداعموه هواية القتل، وتتوالى أسماء المدن التي تغيب في خانة الرماد، ويتحول اهلها الى شهداء ولاجئين ومطلوبين. لم يحدث من قبل ان خذل الكون شعباً بهذه الطريقة، ولم يحدث يوماً ان تُرك شعب لمصيره في مواجهة قاتله أعزلاً كما تُركَ السوريون، هذه الحقيقة الموغلة في الإيلام تجعلك تستحي من صلتك بإنسانية على كل هذا القدر من التوحش وبعروبة لم يبق منها شيء، غير بلاد العرب أوطاني مجرد كلمات صيغت لتصف حالة اصبحت متناهية في المستحيل، على زمان حكام أذل حالاً من أمراء الطوائف بملايين الدرجات!
هل تراها تحرس الأغنام عين غافية؟!
هل يرام الغيث من جفن السماء الصافية؟!
هل يسمى الشعر شعراً بغير تاج القافية؟!
كيف يفنى الشعب يا هذا … ويبقى الطاغية؟!
مقاطع من قصيدة لي من عام ٢٠١٢ يومها كانت البدايات جميلة، وكانت الساحات تعج بالمؤمنين بالثورة الطاهرة.. كانت الملايين تملأ الشوارع وكان القاشوش حنجرتها.. لم تكن الصفحة الا بيضاء ناصعة وكان بقاء الطاغية أمراً مستحيلاً على ضوء مساحة الغضب تلك. حملوا الورود إلى قاتليهم وبدأ رصاص الموت يصنع المأساة … كيف يفنى الشعب يا هذا ويبقى الطاغية؟!
سؤال كان من المحال الإجابة عليه آنذاك …. ولكنه صار منطقياً وواقعاً اليوم!
نعم.. على امتداد حالة القتل المروّع التي حوّلت السوريين إلى قتلى ولاجئين ومقموعين ومقهورين ومستضعفين، صار بقاء الطاغية أمراً مرجحاً، وصار فناء الشعب أمراً حتمياً للأسف!
إذ أنه وللمرة الأولى في التاريخ يجبر شعب على ترك بلاده تحت وطأة القتل والفناء، ليتركها للقاتل يستبيح فيها ما يشاء.
بغطاء عالم عاهر قميء.. فماذا تبقى لك أن تقول؟!
أليس قول الشعر وقاحة في هذه الحالة؟!
ماذا تقول لبشر خذلتهم الدنيا كلها حتى أنت نفسك الذي عايشت مأساتهم الكبرى، صار عجزك فضيحة كبرى في مواجهة ما تشاهده من منظر دام مروع، وصارت ثرثرتك ازعاجاً لا طائل منه في مقتلة موجعة كبرى.. ماذا تقول لمن فقد بيته وحارته وأهله وذكرياته؟!
ماذا تقول لمن ساقه القدر إلى مدن لا يعرفها.. وشواطئ بعيدة حافلة بالأغراب، ومطارات تعج بالوجوه المقطبة المكفهرة؟! أي لغة تكفيك في وصف هذا؟! وأي أعصاب تسعفك في مخاطبة من يفترشون رمال المنافي عند أخ يطعنهم أو عند عدو يتجهمهم؟!
ماذا تقول لمن حملوا الذكريات زوادة في طرقات الرحيل إلى بلاد لا يعرفونها.. الشاميون في تغريبتهم وهم يملؤون حقائبهم بالكمثرى والدموع …. وهم يحملون قلوبهم عفشاً في غربتهم القاتلة.. ماذا تقول لهم؟!
هل تنفع كلماتك.. وانت العاجز؟!
تسكت عندها ولسان حالك يلهج بِ ….
في كلِّ قولٍ لَنا أو كلِّ قافيةٍ
تحبو الدموعُ على أُرجوحة الهُدبِ
هذا زمانٌ تموتُ الذكرياتُ بهِ
حتّى القصائدُ قد بَرِئَت من العربِ
إني لأومنُ ان قد أَودعوكَ دَماً
ليسَت تفيضُ بهِ إلا جراحُ نبي!