تبدأ القصة من زلزال آذار الذي ضرب المجتمع السوري، و انحطت موجاته الارتدادية على البلاد خسفاً و شقاً لصف العباد من أبنائه، و لم تتوقف حتى الآن. لم يكن من قبيل الصدفة، أو الارتجالية، أن تم الإعلان عن ريفية الثورة حينها، و نقصد بها ثورة البعث. فبناء السلطة العتيدة، كما أدرك خاطفها، لن يقوم إلا من خلال اللعب على حواف التناقضات. هي لعبة خطرة و لاشك لمن لا يتقن مهارة القفز على الحبال. لكنه كان معلماُ فيها، كما كان معلماً في كل شيء أسود. و كانت البداية من تناقض الريف و المدينة كما صوروه و قدموا له.
يتمادى الشرخ الذي بدأته ثورتهم تلك، و حملته سلطتهم من ثم، عبر اللعب المذكور في مراحلها الثلاثة : الاستحواذ، و التمكين، ليكون من بعد ذلك التوريث. و يمتد ذاك الشرخ عبر تاريخ سورية القريب حتى يتجلى مع انطلاقة ثورتنا، لتبرز الاصطفافات الجاهلية بحالتها الجنينية، من خلال تساؤلات استفهامية المقصد، استنكارية البعد، ولدها الهول الذي فاق التصور. و يتسع الشرخ، مع اتخاذ تلك التساؤلات منحى الفتنة على يد الفساق، حتى في نطاق المدينة الواحدة، ليبتلع الحد الأدنى من مقومات التوحد، و ليسري البلاء على مستوى الوطن كله.
كانت أبرز الأسئلة التي انطلقت مع بداية الثورة: أين الحي الفلاني. أين المنطقة الفلانية و أين المدينة الفلانية. لماذا لم تتحرك. و تتوقف الإجابات حائرة بشأن هويتها، أتكون تبريراً أم استعذاراً. ليبدأ بنيان التراص يثلم من هنا. و يكون العمل بالتوازي بين تقسيم النظام لأحياء المدن منعاً من عملها المشترك، و بين تفتيت هؤلاء للوحدة الضرورية حينها بين أبناء الأحياء و المدن ليقوموا قومة واحدة.
تتحرك الأحداث سريعاً، و تنجر البلاد إلى المقتلة العظيمة، و يضطر كثيرون للنزوح، و بعضهم للجوء. و تعاود ألسنة الفتنة وسوساتها، و نفخ سموم الفرقة، و يصبح الفرز بحسب مكان الألم : سوريو الداخل و سوريو الخارج، لا سيما حين يكون تصدر المشهد، و ما يتلوه من امتيازات يفرضها المنصب، مطروحاً. و تزداد الهوة اتساعاً، و تكبر النوايا العكرة، و يزداد مكر رواد العتمة.
وحدها خرائب البلد لم تعاير بعضها بشأن حجم و اتساع الدمار فيها، فهول المشهد كان واحداً؛ و وحدها دماء الأحرار لم تسأل عن مواضع سفكها، و رمزية المكان، فقدسية الدم كانت كافية. لم يقف الوجع الجمعي عند حدود أو مناطق أو أشخاص بعينهم. كان الوجع عاصفاً، تجاوز كل اعتبارات ضيقة، و مفاهيم رثة و مواقف مارقة، فتدثر الموجوعون بالحزن و افترشوا الصبر.
لكن، استمرت المياه العكرة تجتذب الخائضين فيها، ليستمر الشرخ بالتمادي أكثر و أكثر، و على كل طرف منه كلاب تنبح و ذئاب تعوي. حتى إذا ما دارت عجلة الانكسارات و التسليمات بعد الحصار و الاستفراد، عادت النغمات إلى نشازها و عادت التخوينات تترا على المسامع المثقلة بأخبار الوطن المنهك و على القلوب النازفة على أبنائه.
و بعد أن توزع السوريون في أصقاع الأرض بحثاً عن حياة جديدة يعيشونها، و بلداً بديلاً يلم جراحاتهم، تحركت في بعضهم “غريزة المشاجب”، أي تحميل اللاجئ الآخر خطايا و آثام كل ما يرتكب في بلد اللجوء، خوفاً على ما حصل عليه من فتات الامتيازات. و لطالما كررها أحدهم على مسامعنا : ” ما الذي أتى بكم إلى هنا ؟. بهدلتونا “، مع أنه الآن يتصدر المجالس التي تتناول وضع السوريين في البلد التي لجأ إليها في الثمانينات و كسب جنسيتها بعد فترة. و هذا ليس حاله لوحده، بل حال كثيرين مثله، ممن شيطنوا أقرانهم و أسبغوا على الآخر بالملائكية، فصاروا ملكيين أكثر من الملكيين أنفسهم.
هنا، لا نجد بداً من الاعتراف بأن الأمراض التي طفت على السطح نتيجة قساوة الوضع الذي خلفه تداعي العالم على الشعب المتهم بالتجرؤ على حاكمه، كانت كثيرة، و معظمها كان مختفياُ وراء الأقنعة الوطنية الكاذبة و الدينية المنافقة، و المناطقية المهترئة، و هذه الأخيرة هي الأكثر فقاعة بينها إلى جانب نسبة الأنانية و النفاق الاجتماعي المرتفعة جداً جداً على مقياس الأمراض النفسية.
تتجمع المواقف الفردية، و الكلمات المتناثرة هنا و هناك ممن كنا نصفهم بالمستهترين، لتتحول إلى خطاب فتنة و تعريض، بين أبناء الوطن الواحد و الجرح الواحد و القهر الواحد ، يفوق في عنصريته و تفاهته خطاب الكراهية و التحريض الذي أطلقته الأحزاب اليمينية على مساحة خارطة اللجوء السوري. فمن الاتهام المباشر لأهل محافظة بعينها أنهم السبب في استعداء أهل بلد اللجوء بسبب من تصرفات أبنائهم اللاأخلاقية. إلى فتح الدفاتر القديمة لتلكؤ محافظة ثانية في الدخول في الثورة، لأن أحد أبنائها أطلق مقولة طائشة ألبت عليه و على محافظته الناس. لينتهي المطاف بوسم أهل محافظة ثالثة بالعمالة من يومهم، و هم الذين نكل بهم في البداية، و الآن، و نحن على مشارف نهاية المرحلة، لا زالت حتى قبور شهدائهم هدف انتقام المارقين.
الأمثلة كثيرة، و كثير منها ممجوج، و الردح القائم على مواقف، لا تسمن و لا تغني من جوع، لا و لن يؤدي إلا إلى مزيد من التمزيق في جسد لم يعد فيه مكان لجرح جديد أو لدسيسة أخرى، و إلى مزيد من تدهور الصورة عند أصحاب البيت المتحفزين.
لطالما كان الجهل كاحل أخيل الذي أتينا منه، و لم تخرج هذه الأفعال عن مداراته. و لطالما كانت الفتنة السلاح الأمضى الذي حوربت به هذه الثورة، و لم تتدن المقاصد إلى أقل من هذا، حتى وصل الحال بها و بأهلها إلى ما نرى. و يبقى السؤال : علام نتطاول على بعضنا، و يخون بعضنا بعضاً و نحن بمنظور الجميع نقبع في ذيل تصنيفاتهم بكل الأحوال ؟. أيظن ذاك الذي يشهر سلاح القدح و الذم بابن وطنه أنه سيرتفع في عين من استقبله ؟. لا. فعندما يتهمون يقولون فعل السوريون، و قال السوريون. لن يقولوا فعل فلان و قال فلان. فكفانا. كفانا شطارة على بعضنا، و كفانا تمزيقاً لوشائجنا، و كفانا تنكراً لوجعنا، فمنذ البداية و حتى النهاية، كلنا في الهم .. سوري.