أخذت العلاقة بين إيران وروسيا في سورية حيزاً من النقاش، نتيجة أن بوتين أعلن منذ مدّة عن ضرورة خروج كل القوى الأجنبية من سورية. وأوضح مسئولون روس بأن ذلك يشمل حزب الله وميليشيا إيران كذلك. ومن ثم صدور تصريحات من مسئولين إيرانيين كبار يؤكدون على استمرار وجودهم في سورية، وأنهم أتوا بطلب من النظام الذي وحده يقرر في بقائهم أو خروجهم. وصولاً الى النقاش الروسي الصهيوني حول وجود ميليشيا إيران وحزب الله جنوب سورية، والخلاف حول المدى الذي يجب أن تبتعد فيه هذه الميليشيات عن حدود الجولان المحتل. وبالتالي مشاركة هذه الميليشيات في الهجوم على درعا.
كل ذلك كان يعطي مؤشراً بأن روسيا غير قادرة على إبعاد هذه الميليشيات عن سورية، وبالتالي أن التنافس الروسي الإيراني لن يؤدي الى خروج ميليشيات إيران، التي ستبقى في سورية، خصوصاً أن إيران قدّمت مليارات الدولارات، وقدّمت الدم من قواتها ومن مرتزقتها. وحتى في النقاش بين روسيا والدولة الصهيونية ظهر أن هناك “خلاف” ما حول الوجود الإيراني في سورية، حيث أن الدولة الصهيونية تطال الروس بخروج كامل بينما يطرح الروس مسألة إبعاد الميليشيات عن الحدود فقط. لهذا يبدو أن الأمور ليست واضحة، وأنه ليس بمقدور روسيا إبعاد إيران من سورية.
هذا الأمر يشير الى الفشل في معرفة قدرات روسيا في سورية، وما تفعله هنا، وبالتالي الوصول الى تفسير خاطئ لـ “التلكؤ” الروسي في إبعاد إيران عن سورية. في سورية هناك خلاف مصالح كبير بين البلدين، حيث تريد روسيا جني ثمار تدخلها العسكري اقتصادياً، كما صرّح السفير الروسي في دمشق قبل سنوات قليلة. لهذا تحصلت على احتكار النفط والغاز منذ زمن طويل، وتسعى الآن الى وضع اليد على مختلف المشاريع، كان آخرها استثمار الفوسفات، والأهم هو حصولها على احتكار إعادة الإعمار. وهذا يعني شطب المنافس الأول الذي هو إيران، التي استثمرت في الحرب من أجل الاقتصاد، ومن أجل الهيمنة السياسية، وكلا المطلبين يصطدمان مع روسيا.
وإذا أخذنا تحالفات روسيا الإقليمية سوف نصل الى أنها كلها تصبّ في خيار وحيد هو إبعاد إيران، سواء تعلّق الأمر بالدولة الصهيونية، أو تعلّق بالسعودية والأمارات (التي ظهر أنها تموّل التدخل العسكري الروسي في سورية كما أعلن الروس). بالتالي يمكن الجزم بأن القرار الروسي هو ما أعلنه فلاديمير بوتين وهو يستقبل بشار الأسد، أي خروج كل القوات الأجنبية من سورية (طبعاً فيما عدا القوات الروسية التي يعتبر أن وجودها شرعي على ضوء المعاهدة التي جرى توقيعها بين “البلدين”، والتي هي معاهدة احتلال). وهذا قرار جدّي يخص إيران وتركيا وأميركا، بغض النظر عن طريقة الوصول الى خروج كل منها.
إذن، لماذا يتلكأ الروس في إخراج ميليشيات إيران؟
حين تدخلت روسيا كان جيش النظام قد تلاشي تقريباً، فحسب تصريح بشار الأسد قبيل استدعاء التدخل الروسي، كان قد بقي من الجيش 130 ألف ضابط وجندي، ولقد تقلَّص هذا العدد بعد إذ، حيث يشار الآن الى وجود 60 الى 70 ألف، منهم 20 ألف قادر على القتال. لهذا تمثّل التكتيك الروسي في خطين، الأول الاعتماد على قوات إيران (حزب الله والميليشيا الطائفية العراقية والأفغانية، والحرس الثوري) من طرف، والحسم العسكري التدريجي لمواقع سيطرة المعارضة انطلاقاً من المناطق المحاصرة الأضعف، ولهذا بُدِء من مناطق الزبداني وريف دمشق الغربي. ثم طرح الروس مناطق خفض التصعيد، التي أصبحت تُصفى واحدة بعد الأخرى. ودور إدلب قادم في أيلول. في هذه الوضعية كانت روسيا بحاجة الى قوات إيران لكي تتقدم على الأرض بعد أن يقوم الطيران الروسي بحرق الأرض. وهذه مرحلة لم تكن الدولة الصهيونية تتحدث عن الوجود الإيراني في سورية بل كانت تقصف ما تعتقد أنه سلاح مرسل الى حزب الله.
هذه مرحلة تكاد تنتهي، ولقد أصبح واضحاً أن الأمور في سورية تسير نحو “النهاية”، حيث يستقرّ وضع النظام بعد أن جرت تصفية معظم مواقع المعارضة من قبل روسيا وقوات إيران. وأن الاستقرار يعتمد على تفاهمات مع أميركا، حيث لا بدّ من انسحابها من شرق وشمال شرق سورية لمصلحة سيطرة روسية. ومع تركيا التي أُعطي لها الحق بالوجود شمال غربي سورية. والدولة الصهيونية التي طرحت أنها تقبل باستمرار حكم بشار الأسد مقابل إبعاد إيران وقواتها عن سورية. ورغم الموقف الروسي “المبدأي” المبلَّغ للدولة الصهيونية، والمعلن كما أشرت، إلا أن روسيا ترى أنه لا بدّ من بعض الوقت لفرض ذلك. والسبب يتمثّل في أنها، إذا كانت في الفترة الماضية من وجودها في سورية معنية بحسم الصراع عسكرياً، تحتاج الآن لبعض الوقت لإعادة بناء الجيش والدولة لكي تكون قادرة على السيطرة. فروسيا باتت تحتاج الى بعض الوقت لكي تبني جيشاً تلاشى خلال الصراع ضد الثورة. ورغم محاولاتها فعل ذلك خلال القتال ضد المعارضة، إلا أنها لم تجد من بيئة النظام ما يساعدها على ذلك، سوى سهيل الحسن. فالشبيحة ليسوا مؤهلين للقتال، والجيش الوطني هو مجموعة من المنتفعين الذين يسعون الى التعفيش. بالتالي نجدها تحاول الآن الاستفادة من قوات المعارضة التي عقدت مصالحات معها. وربما تريد عودة اللاجئين بالسرعة الممكنة من أجل ان تجد منهم من ينخرط في “الجيش الجديد”.
ولكي تبني جيشاً قادراً على حماية النظام ستكون بحاجة للوجود الإيراني. وهي تسرّع في الحسم، كما في تشكيل الجيش، لكي تصل الى حالة تسمح بترحيل تلك القوات. هل تستطيع؟ البعض يشكك بقدرتها، لكنها قادرة، حيث أن طيرانها قادراً على إبادة تلك القوات، إذا لم تستطع الدولة الصهيونية تحقيق ذلك وهي تأخذ الضوء الأخضر من روسيا. لا أحد يعتقد بأن روسيا عاجزة عن طرد قوات إيران، هي قادرة، لكن كما أشرت الأمر يحتاج الى بعض الوقت لكي تبني روسيا جيشها السوري. وهذه المسافة بين قرارها بطرد إيران وعدم طردها في الواقع هي التي تطرح الأسئلة وتشكك في قدرة الروس، لكنها المسافة بين الحاجة لقوات إيران وبناء الجيش الذي يستطيع أن يكون بديلاً عن وجودها. فروسيا الآن تعمل بجدّ في إعادة بناء أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية لكي تكون “في يدها”.
روسيا باتت تحتلّ سورية، وهي لا تريد شريكاً. وإذا عدنا الى سنوات 2013/2015 سنجد أن إيران هي التي كانت تهيمن على القرار السوري، وكان قاسم سليماني هو الذي يقود الصراع، ويعين الضباط الذين يقودون المعارك، حينها عملت إيران على تهميش دور روسيا لأنها تريد سورية لها، من منظور الهيمنة الإقليمية، ومن منظور العلاقة مع حزب الله، وكذلك من منظور المصالح. لهذا استغلت روسيا ضعف إيران بعد أن عجزت على الحسم وحماية النظام من السقوط لكي تتدخل وتفرض سطوتها وسيطرتها التامة. وستكون المرحلة القادمة هي مرحلة تحقيق هذه السيطرة عبر صفقات مع أميركا، وإبعاد لإيران، وحتى تركيا. وروسيا هنا تريد كل سورية، لهذا التقسيم ليس مطروحاً، ولا حتى مناطق النفوذ. فسورية بكليتها لروسيا.