في ظل الأحداث الأخيرة التي حصلت في سورية والتي كان أبرزها سقوط الغوطة ودرعا بشكل درامي وغير متوقع بتواطؤ من الأصدقاء الأعداء وسذاجة من رفاق السلاح ودهاء وخيانة من الضفادع التي تملأ المستنقع الممتد على مساحة الوطن ، راودتني نفسي أكثر من مرة كي أمسك القلم وأكتب مقالا تحليليا لبعض مستجدات الثورة السورية وما تعرضت له من انتكاسات كسرت ظهرها وكادت أن تبدد بقايا الحلم الذي لامس خيال كل من آمن بها ودافع عنها ومشى في ركابها … الأرض خصبة ، والاحداث كثيرة الى درجة تفتح شهية الكتابة والتنظير وربما الاستعراض واثبات الذات ، فما أسهل الحديث عن أسباب النكسة والبحث عن كبش فداء لها ، وما أصدق الكتابة عن الأصدقاء الأعداء الذين كان لهم الدور الأكبر في التسليم المذل لمناطق استراتيجية ، وما أحوج الحديث عن السيناريوهات المحتملة لما تبقى من جغرافية ثورية في الشمال والاسهاب عن ضرورة التخلص من ضفادعها والاستفادة من تجارب المناطق الأخرى لتجنب ذات المصير ، وما أكثر الكلام عن التضحيات التي بذلها الثوار في سبيل حريتهم فضاعت بنذالة العالم وتواطئه من جهة وسذاجة قادة الثورة وجهلهم بالسياسة من جهة أخرى .. لكنني في كل مرة أمسك فيها القلم كان سؤال ماكر يعترض عقلي ويجبرني على القاء القلم ومغادرة المكتب مكسور النفس لتنفيذ أي مهمة – ولو تافهة – تشغلني عن التفكير في الكتابة … كان السؤال هو: ” خطابك موجه لمن؟؟؟ ” . إن فعالية أي خطاب وقدرته على إحداث تغيير حقيقي في مجموعة ما يرتبط إلى درجة كبيرة بخصائص وميزات تلك المجموعة وامكاناتها الثقافية والنفسية التي تحدد أسلوب ودرجة تفاعلها مع هذا الخطاب ومدى استجابتها له.. ذلك أن الخطاب المؤثر لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار خصائص المجموعة المخاطبة فتصاغ جمله وتنتقى كلماته وتساق شواهده بما ينسجم مع البنية الثقافية والأيديولوجية والاجتماعية لتلك المجموعة.. وبما أن المجموعة المقصودة هنا هي جماهير الثورة وبما أن الخطاب المفترض موجه لها أو بالأحرى لنا، كان السؤال السابق يجرني إلى السؤال الأهم والأكثر خطورة: ” من نحن اليوم؟؟؟ ” . بدأت الثورة السورية كانفجار عفوي لبركان الغضب المتراكم داخل السوريين على مدى عقود من الظلم والاستبداد والتهميش والتجهيل المقصود والذي يخدم استمرار الطغمة الحاكمة في السلطة واستئثارها بمفاصل الحكم.. فكانت النتيجة أن خرج القسم الأكبر من السوريين بهذه الثورة – وبنسب تفوق نسب المشاركين في أعظم الثورات على مدى التاريخ الحديث – وانخرطوا في صفوفها، وكان من الممكن حينها تبني خطابا وطنيا يلامس قلوب وعقول الشريحة الواسعة المشاركة بهذه الثورة ويعبر عن تطلعاتها لنيل الحرية وبناء دولة حديثة ديمقراطية دون سيطرة طائفة أو أسرة على البلد ومقدراتها.. ثم عمد نظام الأسد إلى خدعة ماكرة قام من خلالها بتحويل الثورة رويدا رويدا من ثورة شعبية إلى ثورة إسلامية سنية عبر سلسلة من الإجراءات ( قصف المدن والقرى السنية تحديدا بوحشية منقطعة النظير – التمييز بين السنة وغيرهم على الحواجز وفي المؤسسات بل حتى في السجون – اطلاق سراح العديد من السجناء السلفيين – خطاب اعلامي شعبوي لتخويف الأقليات من مصيرها الأسود في حال وصول السنة للحكم – استقدام عدد كبير من الميليشيات الشيعية من لبنان والعراق وأفغانستان وايران لقتال الثوار …… الخ ) الأمر الذي فرض على شباب السنة في سوريا تحمل كامل العبء الميداني في الدفاع عن مدنهم وقراهم وأطفالهم وشيوخهم وطلب العون من العمق السني العربي ما جعلهم يصبغون الثورة بصبغتهم ويسعون عبر السلاح لإسقاط النظام وكادوا ينجحون بذلك ، وكان من الممكن حينها أيضا تبني خطابا إسلاميا سنيا معتدلا من وحي الواقع الذي لا يمكن تجاهله والمظلومية التي حلت بهم والوحشية التي عوملوا بها يلامس قلوب وعقول الشريحة الاوسع المشاركة بالثورة الميدانية ويعبر عن تطلعاتها في رفع الظلم عن حواضنها الاجتماعية ووقف التدمير لحواضرها ويناقش مشاكلها ويضع حلولا للمطبات التي تتعرض لها ، وكان هذا الخطاب يلقى قبولا حتى من الثوار غير الإسلاميين الوطنيين المستقلين الصادقين كنوع من التعاطف مع هذه الفئة التي اجتمعت ذئاب الأرض على نهش جسدها .. ثم وضعت روسيا كامل خبراتها السياسية – متزامنة مع قدراتها العسكرية – من أجل تفكيك الصف الداخلي للثورة عبر اللعب على التناقضات الموجودة داخل مكوناتها.. واستعانت بالعديد من المؤتمرات السياسية التي استقطبت فيها بعض مكونات الثورة وقدمت لها وعودا – أثبت الزمن كذبها – بأسلوب مشابه تماما لأسلوب الأسد في تعامله مع الثيران الملونة في الحكاية المشهورة التي تستقر في ذاكرتنا دون أن تلامس وعينا.. وبذلك نجحت روسيا بنقل الجزء الأكبر من المعركة إلى داخل الجسم الثوري على شكل صراعات بينية ثقافية وسياسية وعسكرية أنهكت الثورة من الداخل وأبعدتها عن الهدف الأساسي الذي خرجت من أجله وألهت الفصائل ببعضها لتستفرد بها روسيا الواحدة تلو الأخرى والمنطقة تلو المنطقة وكانت النتيجة في النهاية جسما ثوريا مشوها كئيبا لا ملامح واضحة له ولا أهداف مشتركة تجمعه ولا شخصيات مرموقة واعية تعيد ضبط بوصلته، الأمر الذي أدخل حاضنة الثورة في متاهة جعلت الكثير منهم ينسحبون منها بهدوء.. وبات من حق المثقف اليوم عند محاولة بحثه عن مخارج للأزمات وحلول للمشاكل أن يسأل أولا: من هي الجهة الممثلة للثورة.. وما هي ملامحها.. وما هي خصائصها.. وما هي أدبياتها ومرجعياتها.. وما هو الخطاب الذي يستطيع الوصول إلى قلوبها وتحريك عقولها وتفجير طاقاتها؟؟؟ من قادة الثورة لنتوجه لهم بالنصيحة.. ومن رموزها لنساعدهم في وضع استراتيجياتها؟؟ هل هم الوطنيون الذين أثبتوا أن وطنيتهم انتقائية ولا تتعدى كونها ظاهرة صوتية.. أم العلمانيون الذين أثبتوا أنهم أكثر تعصبا لآرائهم ورفضا للرأي الآخر من خصومهم التقليديين.. أم القوميون الذين أثبتوا أنهم تجار قضية يميلون مع الريح حيث مالت.. أم الإسلاميون الذين برهنوا أنهم ما زالوا في مرحلة الطفولة السياسية والسذاجة الاستراتيجية والعمى الفكري.. من نحن اليوم؟؟؟ لسنا منسجمين كوطنيين ولا متفقين كإسلاميين ولا متحدين كقوميين ولا ديمقراطيين كعلمانيين.. إن كل فئة من الفئات السابقة هي بحد ذاتها كيان مفكك من الداخل وقابل للتشظي ذاتيا دون تدخل خارجي.. الأمر الذي يضعنا أمام أزمة اثبات الذات.. إن التحدي الأكبر الذي يواجه أي حركة تحرر هو قدرتها على صهر مكوناتها المختلفة والتي يجمعها هدف عظيم واحد في كيان متماسك ذو رأس وجسم وأعضاء، وبناء شخصية ناضجة وبلورة صورة ذات ملامح واضحة وافراز قيادة تمتلك الأدوات اللازمة لوضع الاستراتيجيات ورسم المسارات وصياغة الخطط واتخاذ القرارات الصعبة عند المنعطفات الخطيرة.. لو أردنا أن نسقط هذا الكلام على الواقع فيما تبقى من مساحة تحت سيطرة الثوار (أقصد الشمال السوري) فمن الضروري العمل سريعا على بناء الذات وإقامة الكيان القادر على احداث التغيير، والخطوة الأولى في تشكيل هذا الهيكل تكمن في تحديد الهدف الذي من أجله يقام هذا الكيان، ويحتاج هذا الأمر إلى نخبة واعية مثقفة طموحة قوية الإرادة تعمل على مزج مكونات هذا الكيان في جسم متناسق منسجم غير مفكك دون استبعاد أي مكون.. ولأن المكونات تستند إلى مرجعيات مختلفة وثقافات متنوعة ورؤى متباينة لكل منها جذورها التاريخية وامتداداتها الأيديولوجية المتناقضة أحيانا كان لا بد كخطوة أولى تقديم بعض التنازلات على حساب التاريخ لمصلحة الجغرافيا.. بمعنى التوقف مؤقتا عن الصراعات الأيديولوجية والفكرية والثقافية داخل هذه البقعة الجغرافية ريثما يتم تشكيل الكيان وتعريف الهوية وجلاء الهدف ووضع القواعد الناظمة للعلاقات البينية والصراعات الفكرية داخل هذا الكيان.. لا يمكننا اذاً أن نستفيد من إمكانات جماهير الثورة – ماديا أو ثقافيا أو فكريا أو سياسيا – ما لم ننجح في الإجابة عن هذا السؤال: ” من نحن؟؟؟ ” .. وإن لم يكن بإمكاننا أن نجيب عن هذا السؤال – لأسباب موضوعية واقعية – فلا مفر من صناعة الجواب.. علينا صناعة وتشكيل ” نحن “.. وإلا فلن يكسب سوى ” هم “. ” هم ” الذين تفوقوا علينا في ايمانهم بالكيان والتفافهم حول رأسه والتزامهم خططه رغم قناعتهم بإجرامه ووحشيته وطغيانه.. وأخيرا.. فليس الهدف من طرح هذا التساؤل – ” من نحن ” – جلد الذات وانكار الإنجاز واغماض العين عن التضحيات التي بذلها السوريون – ومن ناضل معهم بصدق – في سبيل تحررهم وتحقيق طموحهم في بناء دولة أكثر عدالة وأقل استبدادا، فالثورة السورية – مهما كانت نتائجها – أهم منعطف تاريخي في حياة هذه الامة في التاريخ الحديث، وهي أعمق حركة تغيير وأشرف حركة اجتماعية وأقدس نضال خاضه شعب للتحرر من العبودية والاستبداد على امتداد مساحة هذه الامة.. وستبقى هذه الثورة وسام شرف على صدر كل من آمن بها وبذل في سبيلها وخدمها بصدق دون محاولة استغلالها أو التسلق عليها.. وستبقى غصة في نفس كل شريف لم يتمكن لظرف ما من الانخراط فيها والنضال لأجل انتصارها.. ولولا أنها على هذه الدرجة من الأهمية ولولا أن لنجاحها أثر عميق متوقع على كل المنطقة لما تطلب الامر اتفاق الأصدقاء والاعداء على اجهاضها إلى درجة تدخل أقوى الجيوش واستخدام أقذر الأدوات لوأدها والقضاء عليها.. إنما الهدف من طرح هذا التساؤل هو الدفع نحو بناء الذات ورسم ملامحها وبلورة شخصيتها من أجل الحفاظ على نواة الثورة جمرة تحت رماد الشمال السوري لعل الظروف تسمح في قادم الأيام – أو ربما في الأجيال القادمة – لنفض الرماد عنها ونفخ الروح فيها من جديد تحت راية واضحة وبقيادة نخبة واعية ولتحقيق هدف محدد.
محمد أحمد بنيس أخيراً، تنفس السوريون الصعداء، بعد سقوط نظام بشار الأسد الدموي الذي أذاقهم شتى أنواع القمع والاضطهاد؛ سقط...
Read more