أرسل لي صديقي المثقف العراقي ماجد مكي الجميل (فيديو) دون أن يدري مسبقا كم هو مفاجأة سارة وكبرى بالنسبة لي، فشكرته بحرارة، لأن البطل السوري الذي يسلط الفيديو الضوء عليه كان وشقيقه محمود من أصدقائي، وكنت أعرف والدهما المرحوم محمد هلال الترمانيني . وشجعتني الحادثة على الكتابة عنه وفاء لذكراه، وتعريفا به لشباب الثورة السورية وسائر شعبنا الأبيّ الوفيّ. لأني على يقين أن 90% من السوريين يجهلونه تماما، ولم يسمعوا باسمه. لا سيما أن ما سأكتبه الآن لم يكن ممكنا لي أن أكتبه وأفصح عنه سابقا، علما أن البطل الشهيد أحمد لم يفارق ذاكرتي أبدا.. أبدا، وكثيرا ما كنت اتذكره بلا مناسبة على الاطلاق.. سبحان الله!
كان والد البطل أحمد المرحوم محمد هلال الترمانيني من رفاقنا في حزب (الاتحاد الاشتراكي) في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وكان ولداه الشابان أحمد ومحمود من أترابنا ورفاقنا أيضا، فالأسرة كلها قومية ومنخرطة في السياسة والمعارضة. وفي عام 1972 فاز في انتخابات الادارة المحلية في حلب، ثم انتخب رئيسا أو نائبا لرئيس مجلس محافظة حلب، وكان الجو السياسي العام حينها يشهد شيئا من الانفراج الكاذب الذي أشاعه حافظ الاسد ليبرر انقلابه ويمرر مشروعه الطائفي.
وكان أحمد واحدا من أصدقائي الذين حاولوا كما حاولت أنا الانتساب للجيش بعد الثانوية، وتقدمت بطلبي الى الكلية الحربية، ثم الجوية، وفي المرتين رفض طلبي لأسباب أمنية، خصوصا أنني اعتقلت في سبتمبر 1971 من قبل الامن السياسي، وأما أحمد فتقدم بطلبه وشاء القدر أن يقبل في الكلية الجوية عام 1970 , وتخرج منها ضابطا طيارا برتبة ملازم أول في بداية 1973. وشارك في حرب رمضان 1973 ضد العدو الاسرائيلي.
وأما شقيقه محمود فأكمل تعليمه الجامعي، وانتسب مثلي لكلية الحقوق في جامعة دمشق عام 1971، وكنت مسؤوله في إحدى خلايا الاتحاد الاشتراكي / شعبة الطلاب بحلب.
في حزيران / يونيو 1976 , وعندما تدخل الجيش السوري في لبنان لقمع الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، كنت حينها في دمشق لتقديم الامتحان في الجامعة، وقد تأثرنا جميعا بالحدث الخطير فأهملنا الدراسة وانغمسنا في متابعة الأحداث، وخاصة معركة جيش الأسد ضد مخيم تل الزعتر الفلسطيني بالتعاون مع قوات (الكتائب) المسيحية الانعزالية. ولم أعد أذكر كيف وفر القدر لي فرصة للالتقاء بالنقيب أحمد الترمانيني، فاصطحبني الى بيته الذي كان يسكنه مع ضابط آخر زميل له. قضينا أمسية جميلة ندردش في كل شيء، ونناقش الاوضاع العامة في البلد، ولاحظت علامات التأثر والانفعال بتطورات لبنان واضحة عليه كما علينا، إذ أن قناعاته السياسية لم تتغير بانخراطه في الجيش، بل لفت انتباهي أنه مهموم جدا ويطيل الوجوم، وكأنه يحمل سرا أو يبيت أمرا.
بتّ تلك الليلة في ضيافته، وفي الصباح التالي غادر المنزل مبكرا ليلتحق بوحدته، وبقيت بعده عدة ساعات ثم غادرت.
بعد أقل من شهر على ذلك اللقاء الأخير مع أحمد، وكنت قد عدت الى حلب، سمعت كما سمع العالم كله عبر وسائل الاعلام نبأ (انشقاقه) عن الجيش وفراره بطائرته الميغ 21 الى العراق. اعتبره إعلام النظام خائنا وعميلا وتوعده بأقسى العقاب، وجنّ جنون السلطة فاعتقلت كافة أفراد أسرته، بمن فيهم والده السبعيني العجوز، ولم يشفع له أنه رئيس (أو نائب رئيس) مجلس محافظة حلب الذي يعادل منصب محافظ المدينة! واعتقلت أشقاءه ذكورا وإناثا، واعتقلت أمه العجوز.. وما عدت أذكر كم من الزمن لبثوا في السجن حتى أفرج عنهم ولكن ليس أقل من سنة، واستطاعوا بعدها الهرب خارج سورية، وانتقلوا الى العراق حيث عاشوا هناك مع أحمد.
وسمعت من مصادر الاسرة في حينها أن التحقيق معهم عند المخابرات العسكرية تركز على معرفة أسباب انشقاقه، وما إذا كان لأسباب سياسية، أو لأنه على صلة بالبعثيين الموالين للعراق، لأن العلاقات كانت متوترة جدا بين النظامين، وكان في سورية جناح سري من حزب البعث موال للقيادة العراقية، ومعارض لنظام الأسد وكان من يكتشف ويعتقل بهذه التهمة فمصيره القتل حتما. وكم قتل من البعثيين بهذه التهمة في تلك الفترة، مثل المناضل طارق الحيدري وعادل الكيالي.. إلخ. والطريف أن آل الترمانيني اتفقوا خلال التحقيق على (رواية موحدة) ملخصها أن انشقاق أحمد لا أسباب سياسية له، بل أسباب (غرامية) فقط! وقالوا للمحققين إنه وقع في غرام فتاة سورية مقيمة في العراق مع أسرتها، وأراد الزواج منها فهرب الى بغداد بهذه الطريقة ليثبت لها مدى حبه لها! والمفارقة أن النظام لم يبلع الكذبة الضعيفة، ولكنه تواطأ مع أهله وروج الرواية، لأنه لا مصلحة له في كشف الحقيقة، لكي لا تحرض العملية البطولية آخرين، ولكي لا يعرف الرأي العام أن سياسة الاسد في لبنان أحدثت معارضة داخل الجيش! وقد حكم على احمد بالإعدام بقرار من حافظ الاسد الذي كان يشرف على سلاح الجو الذي خرج منه وتراسه سنوات.
وأما الحقيقة التي يعرفها أهله وأصحابه أنه انشق احتجاجا على التدخل السوري في لبنان دعما للقوى الكتائبية الانعزالية ضد القوى الوطنية والفلسطينية القومية، وأكدت كل المصادر القريبة أن القيادة أمرته بالإغارة على مخيم تل الزعتر الفلسطيني في لبنان وقصفه بطائرته الميغ 21، ولكن ثقافته القومية الثورية وشخصيته الأبية منعتاه من المشاركة في المهمة الاجرامية، وبدل أن يتجه بطائرته نحو الغرب، اتجه نحو الشرق وفر الى العراق!
عندما حط النقيب أحمد في إحدى القواعد العراقية بطائرته استقبل استقبالا حذرا. وعلمت فيما بعد عبر صديق من السوريين المعارضين المقيمين في العراق أنه طلب من العراقيين حق اللجوء السياسي فأجابوه، ثم طلب الانضمام للجيش العراقي، فقبل طلبه بعد اختبارات أمنية. وتابع خدمته في سلاح الجو العراقي، وتدرج في الرتبة حتى وصل عام 2000 وقبيل الغزو الاميركي – الفارسي الى رتبة لواء ركن.
ولمع اسم أحمد الترمانيني خلال الحرب مع إيران، إذ كان من أمهر وأشجع الطيارين في قصف المواقع الايرانية الحساسة في أعماق إيران، وموانئ تصدير النفط في أقصى جنوبها على سواحل الخليج العربي. ولذلك نقمت عليه إيران نقمة خاصة، ووضعت اسمه في رأس قائمة الضباط العراقيين المطلوب تصفيتهم والانتقام منهم. وأبلغني صديق سوري كان على صلة به أن أحمد حصل على عدد قياسي من الأوسمة من الرئيس صدام والقيادة العسكرية عن بطولاته في الحرب دفاعا عن العراق. وقال لي الصديق إنها خمسة أوسمة، وقال آخر.. بل إنها سبعة.
عندما غزا الأميركيون العراق وحلوا الجيش العراقي البطل، اعتقل اللواء أحمد لأربعة شهور على الأقل، وخلالها ساوموه على العودة للخدمة في الجيش الجديد الذي بدأوا بتأسيسه، لكن البطل السوري رفض العرض وآثر الحفاظ على تاريخه الوطني المشرف.
أما الايرانيون الذين تسللوا للعراق بضوء أخضر من الغزاة، وتعاونوا معهم على حل الجيش العراقي وتصفية آلاف الضباط والخبراء والعلماء والمهندسين، كان اللواء أحمد في مقدمة المستهدفين طبعا، وحاول أصدقاؤه وأقرباء زوجته العراقية حمايته واخفاءه، ولكن جهودهم فشلت، وقضت مشيئة الله أن تطاله يد الغدر والعدوان الايرانية، فاختطفته مخابراتها بواسطة جيش المهدي التابع لعميلها مقتدى الصدر يوم 21 كانون الاول / ديسمبر 2006 وقامت باغتياله والقاء جثته في الشارع. ولا أستبعد أن تكون المخابرات السورية طرفا في الجريمة، أو الاميركية، أو حتى الاسرائيلية، فلها كلها مصلحة في تصفيته.
في شباط عام2007 كنت في زيارة الى حلب، وفوجئت بأحد رجال (أمن الدولة) يتصل بي عن طريق قريب لي، فقابلته معتقدا أنهم يريدون تكرار التحقيق معي بسبب معارضتي لهم في الداخل والخارج، إلا أن الضابط فاجأني بسؤال لم أتوقعه: نحن نعلم أنك تعرف أحمد الترمانيني صديقك القديم، وكنت تلتقي معه في زياراتك لبغداد. فماذا تعرف عن نشاطه السياسي …؟ هل كان ناشطا ضمن معارضتكم …؟ قلت له: ما مناسبة السؤال بعد أربعين سنة …؟ قال بصراحة: لقد اغتيل صاحبك في العراق، وتلقينا طلبا من أقاربه للسماح بنقل جثمانه ليدفن في سورية، ونحن مكلفون بإعداد دراسة عنه للقيادة.. فماذا تعرف عنه …؟ أجبت: لقد انقطعت صلتي به منذ عام 1976 , ولا أعرف شيئا عنه ولا عن أسرته بعد ذلك، ولم أجتمع به في بغداد كما تقول أبدا. ولا أنكر أنني حاولت الالتقاء به، وسألت عنه في بغداد عام 1990 و1991 , ولكنني لم أوفق في الالتقاء به.
سألني ثانية: ما رأيك بهربه للعراق ألا يعد خيانة لبلده …؟ قلت له: صدقني لا أعرف ملابسات هربه، ولا شك أن تصرفه خاطىء عسكريا (طبعا لم يكن ممكنا لي أن أقول غير ذلك!)، وتابعت: ولكنه على أي حال يبقى سوريا وعربيا، فهو لم يهرب بطائرته الى اسرائيل، ولم يقاتل ضد بلده، بل قاتل ضد الايرانيين فقط، وأنا الآن أشعر بالألم، وأعتقد أنكم يجب أن تسمحوا بإعادة جثمانه ليدفن في تراب بلده. هز الرجل رأسه وقال: القرار للقيادة، وأظنهم سيوافقون عليه.
ولا أدري على وجه اليقين هل سمحوا بإعادة جثمانه الطاهر الى سورية، ولكني سمعت من مصدر غير مؤكد أن جثمانه وجثامين بعض أفراد اسرته أعيدت من العراق ودفنت في قريته: ترمانين.. والله أعلم!
رحم الله البطل السوري اللواء الطيار الركن أحمد الترمانيني، فهو في نظري شبيه بالضابط البحري السوري الخالد جول جمّال الذي قاتل في مصر مع الجيش المصري ضد الغزو الثلاثي عام 1956 واستشهد في عملية بطولية ناجحة استهدفت تدمير بارجة فرنسية قبالة الشواطئ المصرية!
وإنني في هذه المناسبة أدعو أحرار وشرفاء العراق وسورية الى تكريم أحمد الترمانيني، بطلا عربيا شجاعا ومخلصا لأمته تكريما يليق به وبالأمة العربية، فقد قاتل وضحى بحياته ضد الغزاة الفرس.
ورحم الله أيضا كل من مات من أفراد أسرته، وخاصة والده المعارض السوري محمد هلال الترمانيني، ولا أعرف ما حل بشقيقه محمود، وأدعو الله أن يكون على قيد الحياة وأن يجمعني به ذات يوم!