لا شيء حقيقياً ينتج عن القمم والمؤتمرات الدولية والإقليمية الخاصة بسورية، ولا تسويات فعلية تنتجها الاتفاقيات العديدة، ولا تعدو المسألة سوى مناورات دبلوماسية بين اللاعبين، أو تحليلات متفائلة، وتوقعات تحاول القفز بخطوات واسعة إلى الأمام على أرض رخوة.
ومنذ حلّت روسيا في سورية، تم الإعلان عن عشرات التفاهمات والتسويات، وصدرت قرارات عن مجلس الأمن بهذا الخصوص، وعلى الأرض لا يوجد صدى لذلك كله، وما هو موجود حرب، تلك التي يسمّونها الأرض المحروقة، ينتج عنها خسارة طرف وتقدم آخر، أما التسوية التي طالما جرى الحديث عنها فلن تأتي أبداً، حتى لو سكتت الجبهات ووقفت المدافع، ما يعني أن وزن السياسة صفر في هذه المعادلة، والعملية حرب وليست سياسة.
سيجري الحديث عن تسوية سياسية في سورية ونجاحها وانتهاء الأزمة، وعلى الرغم من بروز عشرات الأسئلة في مواجهة مثل هذه التسوية، إلا أنه سيجري تعميمها بوصفها تسوية التسويات في سورية، وماذا تحتاج التسويات سوى ممثلين عن الطرفين، وستجد روسيا مئات من منصات دمشق وحميميم وموسكو وأستانة، والمرأة والمجتمع المدني، وربما منصّات لم نسمع بها، لتعتبرهم ممثلين للشعب السوري، لن يحاسبها أحدٌ على معايير السورنة الخاصة باختيارها سوريين يمثلون شعبهم واستبعادها آخرين.
لكن، هل بين هؤلاء من يمثل اللاجئين في لبنان والأردن وتركيا، وهم يشكلون أكثر من ربع السوريين؟ أو هل بينهم من يمثل أبناء الأحياء المدمّرة في دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب ودير الزور والرقة والقنيطرة، وأرياف هذه المدن، أولئك من يسمّونهم نازحي الداخل، وعددهم يساوي ثلث سكان سورية؟ وهل بينهم من يمثل أهالي القتلى والمعتقلين والمفقودين والمعاقين، ومجموع هذه الفئات، وفق تقديرات متحفظة، يتجاوز مليونين؟ هل يوجد ضمن وفد المرأة واحدة اغتصبت في سجون الأسد، لتمثل المغتصبات اللاتي يقدّرن بالآلاف.
وإذا لم تطرح قضايا هؤلاء، ولم يكونوا ممثلين في هيئات التفاوض، ولن يكونوا، فإن أي تسويةٍ ستحصل في سورية ستكون مجرد كذبة، أو بلغةٍ أدق، ستكون على مقاسات فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، اللذين يعتبران كل معارض لبشار الأسد إرهابيًا، ويعقدان التسويات مع فصائل المعارضة، ويوقعان معهم على التفاهمات، وبعد أقل من ساعة يصفانهم بإرهابيين، من دون تبرير كيف لدولة عظمى عقد اتفاقيات وتفاهمات مع إرهابيين، وما بنود تلك الاتفاقيات وعناصرها؟
أما المشهد الذي يجري العمل على إنتاجه، على خلفية قمة هلسنكي وأخواتها، فهو مجرّد فانتازيا غير مسلية، إبعاد إيران عن حدود “إسرائيل” أو بقاءها، بعد أن صارت أهداف إيران وراءها، القضاء على ثورة الشعب السوري، ولو كانت تريد مهاجمة إسرائيل لفعلت ذلك منذ عشرين سنة وأكثر، فهي موجودة في سورية قبل تاريخ الثورة بكثير، وتملك حرية حركة كاملة، ولديها تأثير كبير على صناعة القرار في سورية، ثم إن سورية كانت ضمن مدار حلف الممانعة، حين كان ذلك الحلف يبحث عن طريق للوصول إلى القدس.
من المضحك المبكي، معًا، أن المسألة السورية يجري اختصارها بحجم المسافة التي يجب أن تبتعد فيها ايران عند الحدود السورية. ولكن ماذا عن ملايين السوريين الذين سحقتهم آلة الموت، وماذا عن الذين ستنتقم منهم أجهزة نظام الأسد، حينما تنتهي روسيا من تجريدهم من وسائل الدفاع عن أنفسهم، قبل الحصول على تسوية منطقية؟
تحاجج الدبلوماسية الروسية بأن بوتين لا يستطيع إخراج الإيرانيين من سورية، لأنه لا يستطيع فرض الأمر على إيران وسورية، إذاً لماذا دخل اللعبة “العملية” من الأساس: هل لأنه يستطيع أن يفرض على السوريين احتلال إيران لهم، وعبثها بتركيبتهم الديمغرافية وتوازناتهم المذهبية، وما دامت المطالبة بإخراج إيران من كامل سورية أمرا غير منطقي، حسب لافروف، فهل فرض تسوية ليس فيها ملامح عدالة أمر منطقي؟
ليس صعبًا تصوّر بقية السيناريو من هذه المؤتمرات والقمم واللقاءات، ستبقى إيران في سورية، وسيستنزف بوتين مفاوضيه من الإسرائيليين والأميريكيين بعدد الأمتار التي ستبتعد فيها مليشيات إيران عن حدود الجولان، وستستمر إسرائيل بضرباتها الجراحية إلى حين تجد إيران وسيلة لتمويه وجودها في سورية، وشيئاّ فشيئاَ تصبح الضربات الإسرائيلية من ذكريات الماضي، ويعلن ترامب أن انسحابه من سورية صار مستحقاً بعد زوال الخطر الإيراني.
وحقيقة الأمر أن كل ما يجري مناورة لإعادة تأهيل الأسد ونظامه، لكن الأطراف تبحث عن ذريعةٍ للتخلص من عقابيل الأزمة، والخروج من حال الانسداد التي تراوح فيها أزمات كثيرة، وهي أوهام يمنّي الطرف المقابل لروسيا نفسه فيها، عبر الاعتقاد أن الحل في سورية سيكون مفتاح حلول أزماتٍ كثيرة، وأن السماح لبوتين بتحقيق اختراق في الأزمة السورية سيجعل حصول ذلك ممكنا في أزمات أوكرانيا والتسلح النووي، وغيرها من الأزمات.
غير أن هذا النمط من الحلول ولّاد لأزمات لن تنتهي، ستخمد مدافع الحرب السورية، وستخمد تعبيرات الاعتراض الشعبية، وتتراجع إلى مجرد اعتراضات مكبوتة ومخنوقة في الصدور، لكن ذلك ليس مؤشّراً على نهاية أزمةٍ قذفت ملايين من البشر في أتون محرقة كبرى، ولم توفر حلولها رافعةً لإخراج هؤلاء من الجحيم.
المصدر: العربي الجديد