أوشك الروس على الانتهاء من مرحلة يرونها ضرورية، للبدء بمرحلة أخرى تتأسس على الأولى وتنطلق من محدداتها، إذ استطاعت حكومة بوتين على مدى ثلاث سنوات أن تُنهي الوجود المسلّح للثورة السورية، ونعني القضاء على مجمل الفصائل العسكرية التي كانت تقاتل نظام الأسد، وأبقت على الفصائل الإسلامية المتطرفة لاتخاذ وجودها ذريعة لاستمرار القتل والدمار متى ارتأى الروس حاجة إلى ذلك. احتواء المقاومة المسلحة وتذويبها أدّى تدريجياً إلى إعادة تمكين نظام الأسد من استعادة السيطرة على مساحات كبيرة من الجغرافية السورية. كما أفلح بوتين في تحويل مفاوضات أستانا من مسار استثنائي يعالج القضايا الميدانية والإنسانية التي تقتضيها عملية وقف إطلاق النار فحسب، إلى مسار تفاوضي يشمل جميع تفصيلات العملية السياسية، وهذا يعني أن أستانا – من الناحية العملية – باتت البديل المناسب – وفقاً لروسيا – عن مسار جنيف، ما أدّى إلى تحييد كافة القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية عن أي مقاربة للحل السياسي في سورية.
لا جديد في قوانين المعادلة التي تعتمدها روسيا حيال الحالة السورية، إذ إن حيازة الأرض وتجريد الخصم من وسائل القوة أتاحت للطرف الأقوى فرض شروطه ورؤيته كاملةً، ولعلّ النتيجة الطبيعية والموازية للمنجز الروسي – على المستوى الميداني – هي اختزال القضية السورية بتشكيل لجنة دستورية تقوم بصياغة دستور لا علاقة له بإرادة السوريين وتطلعاتهم، وكذلك الانزياح الكلي من جنيف والقرارات الأممية، إلى سوتشي الذي أراده بوتين أن يكون مظلة سياسية لأستانا.
استطاعت حكومة بوتين على مدى ثلاث سنوات أن تُنهي الوجود المسلّح للثورة السورية ونعني القضاء على مجمل الفصائل العسكرية التي كانت تقاتل نظام الأسد
لقد أنجز الروس ما أرادوه خلال ثلاث سنوات بسلاسة ودونما مواجهات ندّية حقيقية، وقد وفّر لهم أسباب هذه السلاسة الغياب شبه الكلي لدور دولي فاعل وموازٍ للقوة الروسية على الأرض السورية، بل الأصح هو المباركة الدولية للاستفراد الروسي بخصوم سوريين لم يكن بمقدورهم (عسكرياً وسياسياً) سوى الرضوخ للإملاءات الروسية والإقليمية ذات المصالح على الأرض السورية.
تقهقر الكيانات الرسمية للمعارضة السورية وعدم قدرتها على التمسك بمضمون القرارات الأممية التي انتزعها السوريون بدماء أبنائهم، زاد من اندفاعة التوحش الروسي نحو انتهاك المزيد من حقوق السوريين، ولعل في طليعة تلك الحقوق الجوهرية هي قضية مئات الآلاف من المعتقلين السوريين في سجون الأسد، إضافة إلى عشرات الآلاف ممن قضوا تحت التعذيب، بل إن قيام نظام الأسد على إبلاغ قسم كبير من ذوي المعتقلين بوفاة أبنائهم دونما أي أثر لجثامينهم، لا يخرج عن سياق خطة مسبقة التخطيط لتجاوز ملف المعتقلين.
المُنجز البوتيني على الأرض السورية على الرغم من أهميته وضرورته – بالنسبة إلى روسيا -، إلّا أن استثماره بالشكل المطلوب يستدعي البدء بمرحلة جديدة، لعلّ من أبرز معالمها اختلاف موازين القوى نتيجة تبدّل الخصوم، وكذلك نتيجة البدء بجولة جديدة من صراع المصالح الدولية على الأرض السورية. فمن الواضح أن النصر العسكري لروسيا في سورية يجعلها تفكر بجني انتصارات أخرى، بل لعل الروس لا يخفون تلهفهم بانتظار ما سيحصلون عليه جرّاء عملية ما يسمى بإعادة الإعمار في سورية، لعلها المكافأة لهم – كما يعتقدون – على ما حققوه من دمار بشري واقتصادي للسوريين.
لامبالاة المجتمع الدولي بقضية السوريين وتداعياتها المأسوية، وكذلك انعدام الحافز الأخلاقي الدولي الرادع لآلة القتل الروسية الأسدية الإيرانية، قد عزز انتصارات بوتين في سورية، إلّا أنه من المؤكد أن هذه اللامبالاة قد تنقلب إلى منتهى الحزم والجدية حين تتجاوز المصالح الروسية أرواح السوريين، لتطال المصالح الأمريكية أو الأوربية.
لقد أتاحت الإدارة الأمريكية في عهدي أوباما وترامب لبوتين أن يفعل في سورية ما يريد، طالما أن كل ما مارسه من قتل ودمار لا يمس المصالح الحيوية للأمريكان من جهة، وكذلك لأنهم مطمئنون إلى أن أي حل نهائي للمسألة السورية لا يمكن له النجاح إن كان لا ينسجم مع مصالحهم الاستراتيجية في المنطقة بشكل عام، فهل سنشهد مرحلة جديدة من التدافع الأمريكي الروسي على الأرض السورية؟
أتاحت الإدارة الأمريكية في عهدي أوباما وترامب لبوتين أن يفعل في سورية ما يريد طالما أن كل ما مارسه من قتل ودمار لا يمس المصالح الحيوية للأمريكان.
تكشف الوثيقة التي أعدها مجموعة من الباحثين الأمريكان من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى يوم 20 – 8 – 2018 ، عن مجموعة من التوصيات ذات صلة مباشرة بالاستراتيجية الأمريكية المستقبلية في سورية، ولئن شملت هذه التوصيات تفاصيل عديدة من أبرزها منع إعادة ظهور تنظيم داعش، و حرمان نظام الأسد من الاستفادة من جميع المنتوج النفطي والزراعي للمنطقة الشرقية، وكذلك التنسيق مع تركيا بخصوص مدينة منبج، إلّا أن المسألة الجوهرية في مجمل هذه التوصيات – فيما أعتقد – هما أمران: الأول هو المقترح الخاص بشأن الحظر الجوي والبري على الشمال الشرقي من سورية، والذي يراد منه إطباق الخناق على إيران، والذي يتمثل بقطع كل الجسور بين إيران وحزب الله في لبنان من جهة، ومنع إيران من تعزيز منظوماتها الميلشياوية و إنشاء بنى تحتية عسكرية داخل سورية، والأمر الثاني هو تلازم الحصار على إيران مع الضغط على الجانب الروسي بعدم تجاوز القرارات الأممية في أي عملية سياسية في سورية، وخاصة القرار 2254 .
إصرار وثيقة معهد واشنطن على ضرورة الموازاة بين مزيد من الضغط والحصار على إيران من جهة، وكذلك المزيد من الضغط على الروس بعدم تجاوز الحل الأممي للقضية السورية من جهة أخرى، ينم عن رغبة أمريكية تحول دون رغبة الروس بإعادة تدوير نظام الأسد، فهل هذه الرغبة الأمريكية تستند إلى قناعة حقيقية بالعلاقة العضوية بين النظامين الإيراني والأسدي، وأن استئصال النفوذ الإيراني من سورية مقرون بزوال نظام الأسد؟ وهل الروس سيظلون ممسكين بخيار المحافظة على بشار الأسد على الرغم مما يستنزفهم ذلك اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، أم أنهم – وفقاً لمعطيات الصراع الجديدة – سينحازون إلى الحفاظ على مصالحهم دون بشار مجرّدةً من بشار الأسد؟
المصدر: موقع سوريا