يتأسس الخطاب السياسي على جملة من المحددات، والعديد من المؤشرات، التي تذهب به إلى حيث يريد أو لا يريد، وبالتالي تؤطر نواتجه المعرفية والعلمية ضمن دينامية متجددة، تتكئ على آلية تاريخية، قد لا تكون دأبت على وصل ما انقطع بين التراث والمعاصرة.. فمن ماهية الخطاب السياسي إلى أخطائه ومن ثم أهدافه، والفئة المستهدفة منه، وأنواعه، وعقلانيته أو لا عقلانيته، إلى غياب الديمقراطية بين ظهرانيه، وكذلك الهوية ومسألة الهوية على أجندة حراكه اليومي.. كل ذلك يجعلنا قادرين على وضع محدداته الإيجابية والسلبية، وصولاً إلى الخروج نحو حالة أرحب، وأقدر على العطاء، والتفاعل، وتحقيق الغاية المبتغاة، للفئة المستهدفة منه.
- ماهية الخطــاب:
ثمة ضرورة ماسة تقتضي تسليط الضوء على ماهية الخطاب السياسي الحالي الذي يبتعد كثيراً وفي مجمل حالاته عن المعطى العلمي في ماهية الخطاب.. وذلك من خلال بعض المفاهيم الأساسية التي باتت تشكل هذا النمط من الخطابات.. والذي أضحى بحاجة إلى الدراسة والتحليل، عبر الاستعانة بالنظريات اللغوية أو اللسانية.
فالخطاب هو إنجاز في الزمان والمكان، وقيامه يقتضي وجود شروط من أهمها المخاطَب والمخاطِب، وتحديد كيان الخطاب، ومكونات تعلن عن حدوثه وهي:
الأصوات والمفردات والتراكيب والدلالة والتداول، وإذا كان ذلك فإن الخطاب وجود فيزيائي، لأن اللغة ظاهرة فيزيائية، إلى جانب كونها ظاهرة اجتماعية وتعبيرية وتوصيلية، وهي بنية تحكمها علاقات تعلن عن انتمائها إلى كيان لغوي متماسك عبر نسيج من الكلمات مترابطة فيما بينها.. وبهذا يكون الخطاب نظاماً من العلامات الدالة ظاهراً وباطناً.
ولقد جاء مصطلح الخطاب في المعاجم العربية ومنها (لسان العرب) ولـم يبتعد (ابن منظور) في تحديد مفهوم الخطاب، عن دلالة الكلام ومعاييره، وهو الضبط الذي يذهب إليه كثير من علماء اللغة قديماً وحديثاً.. وفي هذا الشأن يقول ابن منظور: الخطاب مراجعة الكلام، وقد خاطبه مخاطبة وخطاباً وهما يتخاطبان.
أما في اللسانيات فنجد أن الخطاب يساوي الكلام، وبهذا نستطيع القول بأنه عبارة عن نتاج فردي كامل يصدر عن وعي، وإرادة، ويتصف بالاختيار الحر، وحرية الفرد الناطق تتجلى في استخدامه أنساقاً للتعبير عن فكره الشخصي.
إذاً ومن خلال ما تقدم يمكننا القول: إن الخطاب هو كلام مباشر أو غير مباشر شفوي أو مكتوب، ويلقى على المستمعين قصد التبليغ والتأثير، ويختلف نوع الخطاب باختلاف مضمونه والمواقف التي يلقى فيها.. ومن هنا يتحدد الخطاب فمنه: الخطاب السياسي، الاجتماعي، الديني، العلمي، التعليمي. الخ.
لكن الخطاب السياسي اليوم يبتعد في كثير من مناحيه عن الماهية الأساسية والعلمية للخطاب.. فهـو يتجـه إلـى منحـى الخطاب التعليمي أو التربـوي.. فيتعامل مع المتلقي كتلميذ أو طالب.. حيث أن الطالب لا يملك – كما هو معتاد – حق إعادة النظر فيما قيل، أو رفضه للخطاب المقترح، أو المفروض عليه، على عكس ماهية الخطاب السياسي المفترض.
والواقع أن بنية الخطاب التربوي والتعليمي المشار إليه على شكل (أنا – أنت) لكن الخطاب العلمي والسياسي يجب أن تكون بنيته على شكل (أنا مقابل أنت) كما أن الخطاب العلمي والسياسي، يمتاز بشفافية الفاعل الدائمة، والمرتبطة بحريته في إصدار الحكم، فالتربية تضع في الوضعية الخطابية فاعلين، نجد أحدهما يحاول التأثير على الآخر، لكن العلم يستلهم خطاباً، ينعدم فيه فاعل التلفظ، فهو حامل لحقيقة تلفظ بها.
يقول (ويدوسون): ((الخطاب العلمي هو تعبير عن مفاهيم وطرق البحث والعرض التي تبقى نفسها مهما كانت وسائل التعبير اللغوية)) فهل يدخل الخطاب السياسي العربي ضمن ماهية الخطاب العلمي؟ أم يجنح إلى التربوي التعليمي افتراقاً عن العلمية المفترضة؟
- سمات الخطاب السياسي:
للخطاب السياسي أو أي خطاب سمات تحدد أطره وتكوينه.. فالخطاب السياسي العلمي هو خطاب شفاف وهو بمنأى عن ((الأنا – الهنا – الآن)) ومن ثم فهو لابد -وفق هذا المعطى – من أن يكون سهل الاحتواء من قبل المخاطَب، لذلك كانت سمات الخطاب السياسي وفق الآتي:
- الخطاب الشفاف ويتميز بـ:
_ قلة ورود ضميري المتكلم والمخاطب.
_ كثرة الأفعال المنقضة.
_ قلة العلامات الدالة على المكان والزمان.
_ قلة الأفعال الدالة على الحكم على الكلام.
_ قلة الصيغ التركيبية التي تنطوي على العلاقة الجدلية بين المتكلم والمخاطب (الاستفهام مثلاً).
- الخطاب المعتم / السجالي ويتميز هو الآخر بـ:
_ كثرة الضمائر.
_ قلة الأفعال.
_ كثرة العلامات الدالة على المكان والزمان.
ويرى البعض أن الخطاب المعتم أو السجالي هما على عكس الخطاب الشفاف.. فالخطاب السجالي هو خطاب معتم لأن العتمة والشفافية إنما تمثلان انفتاحاً على لبس الرسالة، فالشفافية تطابق اللبس الأدنى والعتمة اللبس الأقصى.
3- الخطاب العلمي:
يقوم الخطاب العلمي في حقوله المتعددة على جملة من الخصائص منها:
_ أن المعجم في الخطاب العلمي خالِ من الإيحاء والتراكم، وطاقة الإخبار فيه مهيمنة، وهو محدد الدلالة وغير قابل للاشتراك والترادف.
_ تراكيب الخطاب العلمي غير مكررة ولا تعيد نفسها وهي تجنح إلى الدقة في استعمال المصطلح الخاص بالحقل الذي تخوض فيه.
_ الخطاب العلمي يقوم على نمو المعنى واسترساله فـي تشاكل وحيد.
_ ويعتمد الخطاب العلمي المنطقية في عرض موضوعه ووصفه، وتحري الموضوعية والدقة والمنهجية في وصف الظواهر التي يتناولها بالدراسة والتحليل، وتجنب ما يثير التأويل.
_ الخطاب العلمي يرفض الإحالة إلى ضمير المتكلم أو المخاطب ولا يستعمل من الأزمنة إلا الحاضر.. وهي مسألة يجب أن ينتبه إليها منتجو الخطاب السياسي عموماً.
_ اللغة العلمية هي لغة دلالية محضة، فهي تهدف إلى التطابق الدقيق بين الدال والمدلول، فالدال شفاف لأنه يرشدنا مباشرة إلى مدلوله، دون أن يلفت نظرنا إلى ذاته.
كما يجب التفريق دائماً وأبداً في الخطاب السياسي بين الخطاب العلمي
والخطاب التعليمي المنوه عنه سابقاً.
- الفئة المستهدفة من الخطاب:
في كثير من الأحيان تضيع الفئة المستهدفة من أمام ناظري منتج الخطاب السياسي ، فيذهب في خطابه يمنة أو يسرة، شرقاً أو غرباً، دون أن يضع نصب عينيه الفئة المستهدفة من خطابه، هل هي سلطات غاشمة، أو سلطات ديمقراطية، أم عدو خارجي، أم جماهير شعبية، فئة حزبية ما، أم كل تلوين الطيف السياسي الموجود .. فتضيع البوصلة.. وبالتالي يضيع معها المعنى والمراد، حتى لا نصل في النتيجة إلى مؤدى يوصل إلى مردود هذا الخطاب السياسي.. لكن الخطاب السياسي العلمي عليه أن يضع أمامه ومنذ البداية الفئة التي يريد أن يستهدفها بخطابه هذا، حتى تكون لغـة الخطاب مناسبة، وطرق إيصـال الأفكار واضحـة، وآلية الانتشار ممكنة، إذ ليس معقولاً أن تكون الفئة المستهدفة جماهير (الغلابة) والفقراء من الشارع الشعبي، وتكون أداة الإيصال هـي (الانترنت) وهذه وسيلة حديثة، لم تصل في مجتمعاتنا إلا لفئة قليلة حتى الآن، من مثقفي ومتعلمي هذه الأمة.. فوضوح الفئة المستهدفة، وتحديد آليات الوصول إليها مسألة مهمة، كما أن لغة الخطاب هي الأخرى قضية يجب الوقوف عندها.
- أهداف الخطاب:
كما أن الهدف النهائي أو المرحلي من الخطاب السياسي المطروح، يجب أن يكون واضحاً ومحدداً، وإلا لماذا هذا الخطاب؟ وما الذي نريده منه؟ فأي فعل ثقافي أو سياسي يجب أن تتضح معالمه وغاياته منذ البدء، وبالتالي وضع الأسس النظرية له، أهدافه وغاياته، وماذا نريد منه، وكيف تتحدد أطره الناظمة وأنساقه المجتمعية والسياسية.. وهي مسألة يعتقد بعض منتجي الخطاب السياسي أنها ليست بالأهمية، ونعتقد نحن أنها على درجة كبيرة من الأهمية الموضوعية والاستراتيجية، فإذا لم يكن الهدف واضحـاً، فـإن المشروع المطـروح بحد ذاته، وضمن الخطاب المستقبلي، يبقى غير ذي أهمية، بل يضيع في الطريق، ويغيب بعد حين ليس بالبعيد في دهاليز اللاجدوى.
- الخطاب السياسي ومسألة الهوية:
في سياق الخطاب السياسي تبرز مسألة الهوية، حتى تكاد تخلو أي دورية ثقافية، أو كتاب دون الإشارة إلى الأخطار المحدقة والمحيطة بالهوية، وكذلك الخصوصية الحضارية والمميزة لأمتنا.. حتى رأى بعض الباحثين أن التلوث الثقافـي أشد خطراً، مـن تلـوث البيئة الطبيعية علـى فداحته.. كما يرى آخرين أن الوطن يتعرض لشكل جديد من الاستعمار غايته تخريب الهوية، وتفتيت الثقافة الوطنية.
والهوية عموماً تتأطر عبر السمات الروحية والمادية، الفكرية والعاطفية المميزة لمجتمع أو شعب أو أمة، وتشمل الفنون والآداب وطرق الحياة وأنماط التفكير، كما تشمل التقاليد والأعراف، والمعتقدات على نحوٍ يجعل من هذا المجتمع أو الأمة فضاءً حضارياً له استقلاليته وفرادته، وبه يتعين انتماء الفرد أو المواطن.
لكن الهوية وعلاقتها بالخطاب السياسي باتت مهددة بالفعل في العصر العولمي، وهنا مكمن الإشكال، فالتعدد والاختلاف ممكناً داخل الهوية الواحدة، ولا يجوز النظر إلى الهوية بوصفها جوهراً أبدياً ساكناً وغير قابل للتحول والتطور، بل باعتبارها فضاءً مفتوحاً متبدلاً، متفاعلاً تفاعلاً جدلياً، مع هويات مختلفة ومغايرة، بما يعيد تشكيلها تشكيلاً دينامياً متجدداً يجعل من الحديث عن هوية نهائية وهماً من الأوهام.. حيث يرى البعض أن الحديث اليوم عن هوية مستقلة وفريدة في وقت محدود يستورد فيه العرب 75% من غذائهم و90% من علومهم الحديثة وتقنياتها، وما يجعل من حضارتهم حضارة تابعة في كل وجودها ومظاهرها هو أمر لا معنى له وغير منطقي.
من هنا كان لابد من إعادة فرز سمات ناجزة خاصةً بالهوية، إذ أن المجتمع نفسه ليس كائناً تاماً مكوناً نهائياً على حد تعبير (حليم بركات) في كتابه (المجتمع العربي في القرن العشرين) بل هو متطور في هويته وثقافته وحتى إلى ما هو أبعد من ذلك.. وهذا ما يجب الانتباه إليه في عملية إنتاج الخطاب السياسي النهضوي برمته، حتى لا ننساق وراء بعض الباحثين الذين يرون بأن ((الذل والإذلال سمة عامة في ثقافتنا، وإعلان العبودية أمر مقبول في تراثنا)) وهو يجاري في ذلك دون أن يدري الافتراءات الاستعمارية التي أرادت النيل من تاريخنا وحضارتنا ومستقبلنا.
والحقيقة فإن إشكال الهوية لا يمكن حسمه إلا في إطار المفهوم الدينامي المتطور والمتحول مع جملة تحولات الزمان والمكان والتاريخ، فلا هوية اليوم بمعزل عن حركة التطور العالمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، في عالم متداخل متناظر، متساوق في كل الأشكال والصور.
- الخطاب السياسي الديني:
يرى البعض أن الخطاب الديني يتسم بأنه يتكئ على الخطاب السياسي الشرعي المنَّزل ويقصد به ((منظومة الأحكام والقواعد التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة الإسلامية)) وهي التي بدأ العمل بها منذ قيام دولة الإسلام الأولى في المدينة إلى سنة / 73/ هـ بانتهاء الدولة التي أنشأها عبد الله بن الزبير، ومن ثم تغير الخطاب الشرعي المنَّزل وأصبح يؤول على غير ما يريد الشارع الحكيم.. وبالتالي فإننا نشهد الآن خطاباً دينياً مختلفاً وفي كثير من أحايينه متشدداً متعصباً لم ينظر إلى حقوق المخاطب ووجوده.. كما أكدها الخطاب الديني المنزل حيث عرف عن عمر (رض) أنه لم يسجن بلالاً الذي أنكر عليه عدم تقسيم أراضي العراق على المجاهدين، فحاول عمر إقناعه لكنه لم يفلح، فلم يسجنه ولم يصادر رأيه وبدأ بلال يصعِّد من حدة نقده حتى لجأ عمر إلى الدعاء فكان يقول: ((اللهم اكفني بلال)) وهكذا العديد من الأمثلة التي لم يستوعبها بعض منتجي الخطاب السياسي الديني اليوم.
ومن مميزات هذا الخطاب أن الحاكمية والطاعة المطلقة فيه لله ورسوله وجعل طاعة أولي الأمر تبعاً وهي مقيدة بطاعة الله ورسوله وفي آية ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)).
وفيها ثلاث إشارات:
+ جمع ” أولي الأمر ” ولم يقل الله تعالى ” ولي ” الأمر ويشير هذا الجمع إلى أن
المقصود بأولي الأمر هنا هم جماعة أهل الحل والعقد.
+ إمكانية وقوع النزاع بين الأمة وأولي الأمر وأن الحل فيه هو الرجوع إلى
الشرع ” الكتاب والسنة “
+ لابد أن يكون أولي الأمر ممثلين عن الأمة ” منكم “.
- خاتمة:
الخطاب السياسي يتسم بالكثير من السمات التي تعوق وجوده بشكل غير معتل، وأقرب إلى الصحة.. لكن الديمقراطية الخالي منها الخطاب السياسي هي علة العلل.. من هنا كان لابد من إعادة ترتيب الأولويات فالديمقراطية أولاً، وهذه الديمقراطية في الخطاب السياسي الرسمي.. وكذلك في خطاب المثقفين والسياسيين المعارضين، أصبح من الضرورة بمكان إعادة ترتيب أولوياتها، ولا يجب أن تكون غامضة، وحتى لا تكون كذلك، لابد من تفصيلها وتوضيحها لتكون: تعددية حزبية، اعتراف بالآخر، التعايش السلمي، تداول السلطة، تحديد فترات التداول هذه، وفق الدساتير العربية، فالخطاب السياسي العربي مطالب اليوم وأكثر من أي وقت مضى بتجديد نفسه، والتخلص من أخطائه وتخطيها نحو الأفضل، والإفادة من التاريخ الحديث، والقديم، عبر الإيمان الحقيقي بالديمقراطية، كقضية حياة ومستقبل لشعوبنا.