ليكن واضحاً منذ البداية، أن نادية مراد لم تحصل على الجائزة لأنها اغتصبت فقط، ولو كان الأمر كذلك لجاز لنا أن نتخيل عدد الجوائز التي ستمُنح لمغتصبات ربما على مدار الساعة. كما لم تحصل عليها ” لعدالة قضيتها “. إذ لو كان الأمر على هذا النحو لما تم غزو العراق أصلاً، عبر تحالف ضم ثلثي الكرة الأرضية (معظمهم يصفق الآن لنادية مراد).
واقع الأمر يشير أنها استحقت الجائزة (حسب كتالوك اللجنة المانحة) لنشاطها بعد هروبها من العراق إلى ألمانيا، وتعيينها سفيرة الأمم المتحدة للنوايا الحسنة. وليكن واضحاً – مرة أخرى- أن ما حصل لنادية ومن مثلها -ولا تحضرني الأسماء والأمثلة لكثرتها-، من عنف وحشي واعتداء وامتهان للكرامة الإنسانية وحجز الحرية والاستيلاء على الجسد وغيره، هي انتهاكات وجرائم مُدانة بكل النعوت والأوصاف. غير أن الجائزة شيء وكواليسها شيء آخر. وإذ يبدو من الصعوبة الفصل “ميكانيكياً ” بين ما سبق، لذا سأبدأ بالنتائج أولاً؛ وأرجو أن لا يفهم هذا على أنه تمييع للفكرة الجوهرية (أي حصول نادية على نوبل لجهودها السلميّة) وإسالة هذه النتائج رغبوياً نحو مقاصد وتصورات استباقية. إذن ليس القصد هنا نادية-كشخص- بحد ذاتها ولا حتى جائزتها، وإن كثرة اللغط حول هذا الموضوع يؤكد وجود مشكلة ما، وفي المقابل إن ثبت عدم وجودها فهذا يعني أننا نعاني حقاً من عطب في مكان ما من ضمائرنا. ولا أعتقد أن ثمة ما هو شخصي بين نادية وبين البعض منّا.
تحدثت نادية قبل عام من على منبر الكنيست الإسرائيلي؛ تتوسل مساعدة طبقة سياسية غير نزيهة تقود مجتمعاً عنصرياً ارتكب فظائع تشبه أو ربما أفظع مما حصل مع نادية (دون أن يعتذروا، كي لا يُقال إننا نحمّل الأبناء وزر الآباء). من هناك عبّرت ناديا عن تضامنها مع أحفاد ضحايا الهولوكوست وهي تعلم (أو ربما لا تعلم) أنها حيث تقف كان ذات يوم قرية عامرة بسكانها وذكرياتهم.. مكان شهدَ هولوكوست حقيقي دون مبالغات ودون حذلقات نيو ليبرالية كيوت. إذا كانت طلبت من اسرائيل أن تقف الى جانب “شعبها” والشعب السوري والعراقي في محنتهم، فمن باب أولى أن تشير ولو تلميحاً إلى معاناة شعب تم السطو على أرضه وتاريخه في وضح النار. من وجهة نظري- كفلسطيني-، لا يُعد التطبيع ومن يروّج له بعلم أم بدون علم، مع مجتمع المستعمرين في فلسطين جهلاً سياسياً وسقوطاً أخلاقياً فحسب، بل هو إعاقة ذهنية بطريقة ما، تسعى لتعميم وتسويق ذاتها عبر منافذ مرتبطة بقضايا إيديولوجية وسياسية واقتصادية، ويحمل أيضاً إغراءات ومنفعة شخصية بحيث يقف المرء حائراً أمام هذا المشهد، الذي يراوح في مكان ما بين واقعيته وعقلانيته، فضلاً عن تناقضه المحتّم في إدانته لسلوك وحشي في مكان ما، ثم ينظر إلى إسرائيل على أنها واحة الديمقراطية.
إذا كان من حق أي إنسان في هذا الكون أن يتبنى موقفاً يراه منسجماً مع نمط تفكيره، فأنا – كلاجئ فلسطيني مرة أخرى- أُفضل أن أرى إسرائيل “كما هي” وليس “كما يراد لي أن أراها”، وتنطلق رؤيتي أساساً من موقف شخصي باعتبارها استعماراً شرد عائلتي، ومن موقف فوق شخصي باعتبارها احتلالاً، يعني لو كانت إسرائيل في أي مكان آخر في العالم غير فلسطين، قد يؤثر هذا على موقفي الشخصي ” لجهة الضرر المباشر”، لكنه قطعاً لن يغير من تعريفي ورؤيتي لها.
قد تكون الإجابة في أحد جوانبها على ما سبق، تكمن في فهمنا لطبيعة المقاربات التي فرضها الغرب على العالم, ومنها تعريفه للنظام السياسي القائم في إسرائيل وفي دعمه في إنشاء كيان سياسي بمزاعم سيادة قومية\ إقليمية على الأرض، وبأن يبقى هذا الكيان دون تحديد, ودون حدود وأن يمضي في مشروعه الاستعماري، ليس فقط من خلال نداءات صهيونية متمركزة إثنيًا يختلط فيها الديني بالصوفي والعنصري الرجعي، بالفلسفي للمهمة المسيانية “لاسترجاع ” يهودا والسامرة قلب الكتاب المقدس ،بل أيضا – وبمؤازرة دولية – بخلق جبهة أخرى في تعميم “الحرب على الإرهاب” ،من خلال ارتشاف الوجود الإنساني الفلسطيني وتدمير مؤسساته المجتمعية عبر التلاعب الفظ بتعريف الإرهاب، وبالخدعة السياسية الإسرائيلية التي ترى أن العنف “السياسي” سينتهي حالما يتم القضاء عليه بطريقة ما, دون الإشارة إلى الأطر التي تشكل هذا العنف ,بل وحتى تجاهل الظروف التاريخية والجغرافية التي أعادت إنتاجه, مما يعفيهم من المساءلة إزاء ما يقومون به على نهج “محاربة الإرهاب”.
لا يدخل هذا في باب التأمل الفكري، أو الاستهلال الفلسفي، أو استسهال الجريمة، والتسابق على لعب دور الضحية للظفر بسرديات الغنيمة، بل من الواجب استمرارنا في الإصرار؛ على البعد الاستعماري بمنظوره الكولونيالي التاريخي للصهيونية، ومنتوجه النظري والعملي والتجريبي.
إن إصرارنا على تسمية إسرائيل وتوصيفها كاستعمار وليس “احتلال” فقط هو ما سيحدد أصلاً منظومتنا الأخلاقية، ومدى صلابتها أو هشاشتها، وهو ليس نتاج موقف عصابي رغبوي, بل هو موقف عن سابق إصرار وترصد، من باب العناد الذي يدّعي حقاً غير قابل للمساومة. ومع ذلك؛ لم ولن تكون نادية آخر من طبّع ويطبّع مع إسرائيل.