باسكال صوما
يبدو تراجيدياً أن يقف الواحد أمام المهنة التي يحبّها، وينعاها مع الناعين. يبدو تراجيدياً أكثر أن يقاتل الواحد في معركة مرهقة جداً، على هامش الربح والهزائم. يبدو مضحكاً وسوريالياً أن يكون الواحد مثلي، شاهداً على التساقط في مهنة الصحافة وتناثرات المؤسسات الصحافية، التي لم تستطع أن تصمد أكثر، بدءاً من “السفير” إلى ما يحدث اليوم في كل مكان.
صعب جداً عليّ أن أكتب بأسى عن عشقي الوحيد. لم تمنحني الحياة عشقاً أكبر من ذاك الذي أنتحره في الصحافة. لكن لا مشكلة أقول، المهم أن يحصل المرء على عشق واحد على الأقل ليحارب فيه ومن أجله.
قبل عشر سنوات تقريباً، حين دخلت النفق الطويل في العمل الصحافي، كانت مهنة “الصحافة” تثير الفضول والاهتمام. أخشى أنها باتت الآن تثير الشفقة، وإن كنا في “درج” نصارع الموج ونخرج منه برؤوس لا تنكسر. إنه جسر مريب بين ما هو مهم وما هو مثير للشفقة، ومريب أكثر أن نقطعه في سرعة البرق هذه.
مؤسسات لا تدفع لعامليها، وأخرى تبتزهم أو تستغني عن أقلامهم، أو تطلب منهم الصبر، المزيد من الصبر. ويبدو مهماً أن نقول هنا “إن الله مع الصابرين”، الله معنا أيها الزملاء.
على الضفة الأخرى، يبرع المتزلفون والفاشلون في تمسيح الأحذية بألوانها المختلفة، أما نحن الذين لا لون لنا سوى الإنسانية والبحث عن الحقيقة، فقد نسير في السنوات الآتية بلا أحذيتنا. سنكتب ربما حفاةً وبأمعاء خاوية. لكن ومهما حصل، سنكتب. لا يستطيع أمثالنا الإقلاع عن الكتابة، وهذه حقيقة مجردة.
الذل في أن يسألك أحد عن مهنتك، ويضحك كثيراً حين تخبره. ثم يضحك أكثر حين يسمعك تحكي عن أحلامك وعن رغباتك وعن البيت الذي ستبنيه من عرقك ومن جيبك المثقوب. الذل في ألا تملك مسؤولاً واحداً أو نقيباً واحداً يستنكر ما يحدث لك، في مهنة يُفترض أنها أرقى المهن، مهنة دفعت دماً من أجل الشعوب ومن أجل الحقيقة.
لا أكتب الآن بدافع “النق”، ولا الاستسلام ولا حتى الرغبة في الاستقالة أو الفرار. أكتب بدافع العنفوان والحب والرفض والثورة. بدافع التحية لمن يناضلون، من دون سند حزبي ولا حكومي ولا أممي ولا إقليمي ولا دولي. يُستثنى من هذا المقال كل من أعطى يده بمكر لجهة سياسية أو اقتصادية حتى يصل إلى حيث وصل، إلى حيث يفقد الوصول عذريته ونقاوته. تحية لكل من يجلس في بيته أو في مكتبه أو على الطريق وبين أعين الناس ووجعهم، ليبحث عن مخرج أو عن كلمة تقول ما يجب أن يُقال.
أفكّر كثيراً بكم الذل المفروض على الصحافي الصادق الحقيقي الذي لا يريد مالاً إضافياً لا يستحقه ولا هدية ولا سفرة إلى جزر المالديف، بحجة تقرير أو مقابلة لا تتناسب مع المبادئ الأخلاقية والإنسانية، ولا تسير مع الحقيقة بخطى واحدة. الذل في أن يمننك أحد بحقك وأن يحاول تحجيمك، وأن يطلق رصاصاته الطائشة إلى رأسك، وأن يتعجّب حين تصيبك في مقتلك. الذل في “مكابح” الجهات التي تسوق صحافياً إلى الذبح لأنه لم يكذب. بات اللاكذب جريمة يحاكم عليها المرء.
الذل في أن يسألك أحد عن مهنتك، ويضحك كثيراً حين تخبره. ثم يضحك أكثر حين يسمعك تحكي عن أحلامك وعن رغباتك وعن البيت الذي ستبنيه من عرقك ومن جيبك المثقوب. الذل في ألا تملك مسؤولاً واحداً أو نقيباً واحداً يستنكر ما يحدث لك، في مهنة يُفترض أنها أرقى المهن، مهنة دفعت دماً من أجل الشعوب ومن أجل الحقيقة. الذل في أن تقفل مؤسستك أبوابها في وجهك وفي وجه الجميع ولا يخرج وزير واحد ليقف على خاطرك، أو يقول لك وإن على سبيل المزاح “أنا معك”. الوجع أن يشاهد الجميع كباراً وصغاراً ذلك من دون البحث عن خطة أو استراتيجية. وكأنّ أحدهم يريد بيروت بلا صحافة وبلا صحافيين، والجميع الآن ينفذ المخطط الجهنمي، فيما نقاتل بأقلامنا وخلف شاشاتنا الصغيرة، ونحن نركض من هنا إلى هناك لنصنع مادة مختلفة ومفيدة.
تحية إلى من يعنيهم هذا النص… واللعنة على كل من سيقرأ بحياد وبلا مسؤولية. ليست الصحافة قدرنا نحن وحسب، إنها قدر الشعوب والدول، وقدر بيروت. وعلى المرء أن يستميت ليجعل قدره أفضل. ما العالم لولا المجانين الواقفون في وجه الظلم والمجاهدون في سبيل الحريات والعدالة والإنسانية، فيما يقاتل “العقلاء” ليحوّلونا إلى روبوتات يحرّكونها، ولا تحرّك ساكناً؟
المصدر: درج