الياس خوري
في الماضي القريب، الذي صار يبدو بعيداً، كنا نرفض استخدام كلمات كالمنفى أو الشتات لوصف واقع اللجوء الفلسطيني الطويل. فالبلاد العربية التي استقبلت اللاجئين الفلسطينيين هي أيضاً بلادهم، أو هكذا ظننا أو توهمنا. لكننا كنا مخطئين، كلمة مخطئين ليست دقيقة، لنقل أننا فشلنا، أو بعبارة أدق فإن الأنظمة التي تاجرت بشعوبها وبقضية فلسطين، حولت اللجوء إلى منفى، قبل أن تتساقط أقنعتها وتتحول إلى «حليف» صغير للمشروع الصهيوني. وحين بدأ طوفان اللجوء السوري، وسط بحار الدم والجريمة التي غطت سوريا، فهمنا معنى المنفى بشكل حقيقي. فالعنصرية العربية التي شكلت الوجه الآخر لنظام الاستبداد الأسدي أذاقت اللاجئين السوريين الذل والهوان، وكانت مأساة منافيهم العربية أشد هولاً من مأساة اللجوء الفلسطيني. وأنا هنا أتكلم عن لبنان كمثل نموذجي فاضح وليس كاستثناء. فمنذ البداية استُقبل السوريات والسوريون بالعنصرية والكراهية، وعاشوا في ظروف قاسية، وذاقوا ولا يزالون يذوقون مرارات الاستعلاء والاستغلال ومنع التجول وإلى آخره… من صنوف الاستبداد والكراهية والقمع. وليس مستغرباً أن يتجه طوفان اللجوء إلى أوروبا رغم الكراهية العنصرية المتصاعدة في عالم يقوده عنصري يدعى دونالد ترامب. ففي أوروبا، رغم كل شيء، يمتلك اللاجئ حقوق المنفيين، ويعيش بحد أدنى من الكرامة الإنسانية التي لا يوفّرها «الأخوة» العرب. لبنان ليس استثناء، إنه نموذج، ومشكلة اللجوء السوري تتخذ فيه هذا الحجم الكبير بسبب الحدود المشتركة الطويلة من جهة، وبسبب العلاقة القديمة التي جعلت من العمالة السورية هي من بنى وزرع وعمّر لبنان من جهة ثانية، غير أننا نجد تصرفات عنصرية مشابهة من المحيط إلى الخليج، كأن النظام العربي ضاق بهويته العربية، وتحوّل بكل مكوناته إلى آلات قمع صمّاء. غير أن العنصرية المعادية للاجئين، التي تطفو على سطح اللغة السائدة وتجرف معها الكثيرين، ليست سوى قشرة خارجية تحجب الحاضر، فما نعيشه اليوم في العالم العربي هو تجربتنا مع منفيين: منفى خارجي ومنفى داخلي. اللاجئون والمطرودون والمنفيون من أوطانهم، على الرغم من أعدادهم المليونية، ليسوا سوى أقلية مقارنة بالمنفيين في أوطانهم. كل بلاد العرب صارت منافي لمواطنيها، وهنا تكمن المفارقة المرعبة التي جعلت من حلم الهجرة هو الجامع المشترك لسكان بلادنا. إذا عدنا إلى لبنان كمثل، فإن ما نلاحظه من حمى الهجرة إلى أوروبا التي تضرب الشباب الفلسطينيين في المخيمات، وسط تحايلات المهربين المغطاة بتواطؤ شبه رسمي (راجع مقال منير عطا الله: «تهجير الفلسطينيين من لبنان… سماسرة بغطاء محلي ودولي»، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 117، شتاء 2019)، لا تقتصر على الفلسطينيين وحدهم، بل تشمل اللبنانيين أيضاً. فاللبنانيون يشعرون أنهم وقعوا في مصيدة صنعتها طبقتهم الحاكمة، يعيشون الإذلال والفقر وتتراكم على بلادهم ديون جائرة صرفت في النهب. كل شيء يضيق بهم: طغمة حاكمة مستهترة تستخدم الطائفية وشبح الحرب الأهلية لتطويع الناس، وهي اليوم تستخدم سلاح الأزمة الاقتصادية من أجل إذلالهم. طبقة عاجزة عن الحكم، متمسكة بسلطتها، وشعب يعاني مفتقداً الوحدة والقيادة. ولعل بدايات التحرك الشعبي، الذي يحاول اليوم أن يجد لغته الجديدة، متجسداً في جيل جديد من الشابات والشبان الذين خاضوا تجارب النوادي العلمانية في الجامعات، وبدأوا يبلورون لغة سياسية/ ثقافية مختلفة وواضحة، هي نقطة الضوء الوحيدة في هذه العتمة اللبنانية الشاملة. هذا الواقع الذي يضاف إليه القمع الذي يلجأ إلى الحيل القانونية ويقوم بتلفيق التهم، جعل من لبنان منفى لأبنائه. هنا تأتي العنصرية ضد السوريين والفلسطينيين لتغطي هذا الواقع المخيف، وتعطي الطوائف متنفساً عنصرياً تعبر فيه عن انحطاطها الأخلاقي والسياسي. لكن هذا الغطاء لا يحجب سعي الشباب إلى الهجرة، بل يجعل أبناء الحروب المتتابعة يشعرون بالغربة في وطنهم، لأن الوطن صار هو المنفى. السوريون في منفيين، منفى خارجي ومنفى داخلي. فهم سواء كانوا في لبنان أو في أوروبا أو في سوريا نفسها، يشعرون أن لا وطن لهم، لأنهم لا يملكون سوى حق واحد هو الانحناء. وهذا حال العراقيين والمصريين واليمنيين والليبيين… أما الواقع الذي يبدو الأكثر فداحة فهو الواقع الفلسطيني في منافيه الثلاثة: المنفى العربي، والمنفى في الغرب، والمنفى في بلاده. وأنا لا أتكلم هنا عن المنفى داخل أراضي 1948 فقط، بل عن المنفى الذي صنعته سلطة فلسطينية انقسمت على نفسها، وفقدت بوصلتها، وهشمت قضية الحق الفلسطيني. إنه زمن المنافي. الشعوب العربية التي انتفضت على الاستبداد، ووجدت نفسها غارقة في بحيرات الدم والقمع والنفط، تعيش اليوم تجربة جديدة مع المنفى، وتدعونا إلى إعادة التفكير في دلالات هذا المصطلح. المنفى العربي الأكثر قسوة هو المنفى الداخلي. فبعد الدم الذي أراقه المستبدون والأصوليون صارت بلادنا أشبه بمنافٍ مقفلة، يختنق في داخلها الإنسان، ويشعر أنه غريب عن نفسه. حتى لغتنا التي كانت ملجأنا الأخير تنتهك اليوم وتفقد دلالاتها. المدخل إلى فهم واقعنا العربي، وواقعنا في كل بلد عربي على حدة، هو أن نفهم آليات سطوة هذا المنفى، كي نستطيع أن نبدأ بعملية تفكيكه وإنهائه. المنفيون لا يريدون العودة إلى أوطانهم أو البقاء فيها، بل يريدون أن يصنعوا من أوطانهم أوطاناً يمكن العودة إليها والبقاء فيها.
المصدر: القدس العربي