وائل السواح
أكثر من شهر مرّ منذ أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قراره المفاجئ سحب قوّاته من سورية، بعد مكالمةٍ عاصفةٍ مع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان. قال بالفم العريض إن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قد تمت هزيمته، ولم يعد ثمّة مبرّر لبقاء القوات الأميركية في سورية. وكرّر ذلك نائب الرئيس، مايك بنس، كعادته الببغائية بالحرف تقريبا، وإنْ بلغةٍ أرفع من لغة ترامب الشارعية. أكد قرار ترامب سياسة الولايات المتحدة الخارجية الانسحابية من سورية والمنطقة، منذ أيام الرئيس السابق، باراك أوباما. ولئن كان سحب القوّات الأميركية قبل أوانه حركة لا أخلاقية من إدارة الرئيس ترامب، فإن الأخطر هو الانسحاب السياسي لإدارة ترامب، وقبلها إدارة أوباما، من الملف السوري.
الفراغ الذي سيخلّفه الانسحاب الأميركي سيملأه بالتأكيد ثلاثي إيران وروسيا وبشار الأسد، وما تبقّى من “داعش”. وسيكون السوريون من عرب وكرد الخاسرين من هذا الانسحاب، ولكن السوريين ليسوا الوحيدين؛ ثمّة خاسرٌ كبير آخر: الولايات المتحدة نفسها، ومعها الديمقراطيات الغربية.
على مدى العقود السابقة، كان ثمّة سوء تفاهم تاريخي بين السوريين من جهة والولايات المتحدة والديمقراطيات الغربية من جهة أخرى. منذ الحرب العربية – الإسرائيلية واحتلال فلسطين في عام 1948، دخلت المنطقة في نفقٍ مظلمٍ من العلاقات العدائية بين شعوب هذه المنطقة والغرب بشكل عام، والولايات المتحدة خصوصا. ولعبت الأنظمة “الثورية” في المنطقة، ومن بينها نظام البعث السوري، دورا في تأجيج هذا التوتّر. وجعلت هذه الأنظمة من أيديولوجيات “مناهضة للإمبريالية والمناهضة للصهيونية” أداةً لتعزيز حكمها، وتعزيز هيمنتها على شعوبها ومراكمة أرصدتها في البنوك العالمية. تمّ استخدام القضية الفلسطينية واحتلال الجولان والدعم غير المشروط من الولايات المتحدة لإسرائيل لتعبئة المواطنين العرب وحشدهم وراء الأنظمة. وحتى عندما كان حافظ الأسد يتعاون مع الولايات المتحدة في عام 1991 لتحرير الكويت، فقد حافظ على لهجته المعادية لأميركا داخل البلاد، وللمرة الأولى منذ عقود، سمح الأسد للمثقفين بإصدار بياناتٍ معارضةٍ لموقف النظام الذي دعم التحالف الدولي ضد صدام، لمجرّد الحفاظ على هذا العداء، واستباق أي روح مصالحة قد تحلّ محلها. وجاء غزو العراق في عام 2003 وحرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل، ليساعدا في تأجيج الأوضاع أكثر.
ومع ذلك، شكّل الموقف الغربي بشكل عام، والأميركي خصوصا، من الانتفاضات التونسية والمصرية والليبية، خطوة أولى في تغيير الرأي العام تجاه العلاقة مع الغرب. ولأول مرة، سمعنا في تونس ومصر وبلدان أخرى، بما فيها سورية، دعواتٍ تشيد بالموقف الأميركي فيما يتعلق بالرئيسين، بن علي وحسني مبارك. ورحّب غالبية العرب بالتدخل الدولي في ليبيا لإطاحة معمر القذافي. وعندما اندلعت الانتفاضة السورية، كان السوريون مبتهجين، بسبب ما بدا وكأنه دعم لقضيتهم. أدّت الخطوات اللاحقة التي اتخذتها الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية إلى الاعتقاد بأن الغرب كان يدعم الانتفاضة، كما فعل مع انتفاضات الربيع العربي الأخرى، وأنه، كما في تلك البلدان، لن يسمح للمحتجّين بالسقوط. رحّب غالبية السوريين المناوئين للأسد بشكل عام بالعقوبات الغربية ضد نظام الأسد، والأفراد الذين دعموه، على الرغم من أنها عقوبات كان من شأنها أن تضرّ بهم (سيما المفروضة على النفط والبنوك). ورحّبوا بالإعلانات المتتالية عن الإدارة الأميركية أن الأسد فقد الشرعية، ومن ثمّ مطالبتهم للأسد بالتنحّي. وتعزّز هذا الشعور عندما أعربت الولايات المتحدة عن دعمها قرار جامعة الدول العربية، تجميد مشاركة النظام في جلسات الجامعة. بعد هذا كله، حظي السفراء الغربيون الذين لم يكونوا إطلاقا محلّ ثقة السوريين باستقبال الأبطال من جماعات المعارضة السورية والمجتمع المدني السوري والمواطنين السوريين العاديين، كما حدث مع السفير روبرت فورد، حين استُقبل بالأرز والزهور، عندما زار حماة، وكذلك الترحيب الحارّ بالسفراء الثمانية الذين حضروا عزاء المناضل اللاعنفي غياث مطر في داريا.
وقد دعمت الفصائل الرئيسية في المعارضة السياسية السورية الموقف الغربي، ودعت صراحة إلى مزيد من التدخل ضدّ نظام الأسد. وفي وقتٍ مبكر من سبتمبر/ أيلول 2011، دعت بعض جماعات المعارضة السورية إلى تدخل دولي لحماية المدنيين من الهجوم العسكري المستمر لنظام الأسد، بما في ذلك إقامة منطقة حظر طيرانٍ مدعومةٍ من الأمم المتحدة. وطالبت بتقديم الأسد ومعاونيه إلى محكمة الجنايات الدولية، بتهمة ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية. ودعت إلى فرض حظرٍ على الأسلحة، يتمّ الإشراف عليه دولياً ضد دمشق، وإنشاء بعثة مراقبةٍ تابعة للأمم المتحدة. وفي وقت لاحق، أصبح الخطاب أكثر وضوحا وأكثر مباشرة. ففي مارس/ آذار 2012، دعا المجلس الوطني السوري إلى تدخلٍ عسكريٍّ عاجل من المجتمع الدولي، ومن أجل منطقة حظر جوي عبر سورية. وقال المجلس، في بيان في 13 مارس/ آذار “رسائل التعاطف لم تعد كافية. ما نحتاجه هو تصرّفات على الأرض واتخاذ قرارات وتدابير ضد عصابات الأسد”. وأخيرًا، عندما ضرب الأسد السوريين بالأسلحة الكيميائية أول مرة في صيف 2013، وهدّد أوباما باستهداف قوات الأسد في ضربةٍ محدودة، رحّب معظم السوريين، ومعهم الائتلاف الوطني، بالتدخّل الأميركي لضرب الأسد.
كانت البيئة مناسبةً للولايات المتحدة وحلفائها للتقدّم، وتحقيق مصالحةٍ تاريخيةٍ مع الشعب السوري. كانت غالبية السوريين في عام 2011، والأشهر القليلة الأولى من عام 2012، على استعداد للتعاون مع الأميركيين لإطاحة الأسد، وتثبيت نظام ديمقراطي جديد في سورية. خلال تلك الفترة (وحتى بعد ذلك) لم يثر أي شعار ضد الإمبريالية أو إسرائيل، وكان هناك فرصة أن تؤدي علاقة جديدة مع الغرب إلى مرحلةٍ جديدةٍ من العلاقات بين الشرق الأوسط والعالم.
فشلت الولايات المتحدة في انتزاع هذه الفرصة، والتي قد لا تتكرّر قريبا. ولو أنها فعلت ذلك، لكانت هناك فرصةٌ لتحقيق أمور عدّة، تكون في صالح شعوب المنطقة والولايات المتحدة والغرب على حدّ سواء. ومن تلك الأمور إيجاد ديمقراطية حقيقية في قلب المنطقة، من شأنها أن تكون نموذجًا جيدًا يجب أن تتبعه الدول الأخرى؛ وبدء مفاوضاتٍ جادّةٍ مع الإسرائيليين، كان من الممكن أن تمهد الطريق إلى سلامٍ حقيقي بين الدولتين؛ وأخيرا إيجاد نوعٍ مختلف من الاقتصاد، يبنى على السوق، بدلاً من العلاقات الشخصية مع عائلة الأسد، والتي من شأنها إيجاد فرص عمل، ما كان سيحدّ من رغبة الشباب السوري في مغادرة بلدانهم والبحث عن ملاذ في دول الجوار أو أوروبا. وكان من شأن ذلك بشكل خاص أن يخفّف العبئين، المعنوي والمادّي، على أوروبا. بيد أنّ أيّا من ذلك لم يحدث، وبدلا من ذلك، يوجّه الرئيس ترامب اليوم الضربة القاضية لأي أملٍ في تحسين مستقبلي للعلاقة مع السوريين. خسارة.
المصدر: العربي الجديد