أحمد مظهر سعدو
دأبت أجهزة النظام السوري الأمنية والمخابراتية على مدى عمر السلطة الانقلابية التي جاءت بحكم عائلة الأسد منذ 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1970 من القرن الفائت، على ممارسة سياسة أمنية تسلطية، تعتمد على مبدأ إلغاء السياسة من المجتمع، عبر أدوات القمع الممارس يوميًا من قبل الدولة الأمنية. وراحت تزج في سجونها ومعتقلاتها، كل من تسول له نفسه مجرد التفكير بممارسة السياسة بعيدًا أو في مواجهة قوى الدولة المسيطرة على مقدرات البلاد والعباد، وهي سياسة آتت أكلها على ما يبدو، خلال ما يزيد عن ثمان وأربعين عامًا من حكم الدولة الأسدية، من الأب إلى الابن، حيث تمكنوا من لجم الشارع السوري، وإنهاء أية حالة معارضة جدية للحكم، واستتب لهم الوضع أكثر وأكثر مع مجازر بداية الثمانينات من القرن المنصرم، وكان أفظعها بكل تأكيد جريمة قتل واغتيال مدينة كبرى بحجم مدينة حماة، التي تم تدميرها فوق رؤوس أصحابها وأهلها في شباط/ فبراير 1982 حيث ماتزال رائحة الدم والأجساد المحروقة تُزكم الأنوف وتوقظ الإنسانية، الغارقة في نوم عميق.
هذه السياسة القمعية المناقضة لكل معطى إنساني، شهدها العالم وصمت عنها، صمت القبور، وهي التي أدت إلى قتل وإعدام ما يزيد عن أربعين ألف إنسان مدني في حماة لوحدها، في تلك الفترة. ولعل الموقف العالمي غير المعني، والذي ترك نظام الأسد وإجرامه طليقًا إلى اليوم، هو ما شجع النظام الوريث، وإبان الثورة السورية الشعبية العظيمة التي انطلقت أواسط آذار/ مارس 2011 مع بدايات حراك الربيع العربي، وهو ما شجع أدوات البطش الأسدية لتستمر بنفس السياسة التعسفية الهادرة للإنسانية، لتبادر وتواجه ثورة شعبية سلمية، ثورة للحرية والكرامة، بكل أصناف القمع والقتل، من طيران وصواريخ بالستية، وبراميل كاختراع أسدي عصري للقتل، وكيماوي محرم دوليًا، وزج كل من شارك في أية مظاهرة، أو أي اعتصام، أو مجرد أيَّد ولو معنويًا لهذه الثورة ، ليزج في أقبية الاعتقال، التي غصت بها أجساد وأرواح السوريين، ضمن ظروف من الاعتقال لا تخفى على أحد، وضمن واقع مرير مورست فيه ومازالت، كل أنواع التعذيب والقتل، والتي لم يعد النظام السوري بقادر على إخفائها، فراح يصدر بين الفينة والأخرى بعض القوائم لعشرات الآلاف من المعتقلين الذي قتلوا في سجونه، دون أي وازع من أي ضمير، أو خوف من محاسبة، وكما يقال (إذا أمن المجرم المحاسبة استمر في غيه) ، وقتله للأرواح البريئة التي يقوم بإزهاقها على مرأى من العالم قاطبة.
وحتى لا نظل نتحدث دون ملامسة للواقع المعاش في سجون ومعتقلات القمع، ولما يعانيه المعتقلين في سورية وما يعانيه أهليهم، التقينا بالسيدة (فرح عمورة) التي نال أسرتها ما نالته مئات الآلاف من أسر سورية، وهي التي كان زوجها الطبيب (سعيد النجار) من ضمن المعتقلين السوريين الذين ما يزالون وحتى اليوم يعانون، وهم مغيبون في سجون الأسد، دون أية معلومات عنهم. السيدة فرح قالت لنا: ” تم الاعتقال الأول لزوجي وهو الطبيب الجراح في مشفى المواساة بدمشق في نهاية شهر تشرين أول / أكتوبر ٢٠١٢ حيث بقي عشرين يومًا في فرع المخابرات الجوية، وبعد ذلك تحول لما يسمى بمحكمة الإرهاب، وأودع بعدها ثلاثة أشهر في سجن عدرا المركزي حتى أخلي سبيله من قبل القضاء مع بداية شهر كانون ثاني / يناير ٢٠١٣، وكانت تهمته (معالجة المسلحين) وهي تهمة كبيرة بنظرهم، فأي طبيب يعالج أي مصاب خلال العدوان الأسدي على بلدات ريف دمشق مدنيًا كان أم عسكريًا، تعتبر جريمة بنظر النظام وأجهزته.” ثم تحدثت عن كيفية الاعتقال السيئة لتقول” تصور أنهم ” أخذوه من غرفة العمليات في المشفى الحكومي وهو في ثياب العمليات الخضراء، اعتقلوه من غرفة العمليات، حتى أنه لم يكن معه أوراق ثبوتية لا هوية ولا أي شيء، وثيابه ظلت معلقة بالمشفى ” وتحدثت عن ما حكى لها زوجها من ظروف اعتقاله وتعذيبه بعد خروجه من الاعتقال الأول، وبكل مرارة وحرقة قالت: ” مورست بحقه كل وسائل التعذيب ومنها وسيلة الشبح لأيام عديدة، تركوه مشبوحًا لفترات طويلة جدًا، وعندما خرج ، كانت آثار التعذيب واضحة على جسمه، على ظهره وعلى يديه التي كانت تعالج المرضى، خرج وصحته سيئة، ناهيك عن وزنه الذي نقص بشكل كبير، والأسوأ كانت حالته النفسية، مع أنه كان صبورًا، ولديه قدرة على التحمل، مع وجود الكثير من التقرحات والندبات الواضحة “. ثم قالت ” كانوا يعذبوه كثيرًا وبكل أنواع التعذيب ليجبروه أن يعترف على قضايا ليس له علاقة فيها، ويطلبون منه أن يعترف بتهريبه للسلاح مثلًا، وهو أساسًا لا يعرف السلاح ولا يحبه، عذبوه لدرجة أنه طلب منهم أن يموتوه ويخلصوه، لأنه لن يُحَمِّل نفسه اعترافات ليس له فيها ناقة ولا جمل.” لكن هذا النظام المخابراتي لم يكتف باعتقال هذا الطبيب في المرة الأولى بل كان الاعتقال الثاني بعد أقل من شهر من خروجه الأول.
تقول فرح ” ثم كان الاعتقال الثاني أواسط شباط / فبراير 2013 بعد أن عاد و باشر عمله في نفس المشفى الحكومي، ولأن مدير المشفى معروف بأنه (أمن وشبيح) فقد كان المشفى ثكنة عسكرية بحق، حيث راح المدير يساهم في تسليم الأطباء الواحد تلو الآخر، لقد جاؤوا وسحبوا زوجي الطبيب من المشفى أيضًا في المرة الثانية كما سحبوا زملاءه، ومنهم طبيب أطفال، وطبيب عصبية، وطبيب أسنان وجراحة فكية، والكثير من الأطباء والممرضين، فتصور أن الأمن في المشفى كانوا يتجولون في سكن الأطباء، كما كان هناك قناصة من الأمن داخل المشفى، وعلى سطحه، يطلقون النار على المتظاهرين من المشفى” ثم قالت : ” داوم زوجي الطبيب في المشفى ١٨ يوم وهي الفترة بين الاعتقال الأول والثاني وكان يرى كيف أصبح مدير المشفى يتمشى بالمشفى بمرافقة من الجوية ويخاف أن يمشي بلا مرافقة، وفي لحظة ما جاءت دورية وأخذت زوجي، ولم نعرف عنه شيئًا حتى الآن ، منذ ست سنين تماما”. لكن أملها بخروجه مازال قائمًا رغم السنين الطوال حيث قالت ” نحن وفي كل يوم ننتظر أن نراه معنا، الأمل موجود وكل ثانية ننتظره، مع العلم أن سماسرة النظام أخذوا منا حتى الآن ما يزيد عن 3 ملايين ليرة، تحت ادعاء أنهم سيساعدوننا بخروجه، لكنهم جميعًا كاذبون، وهم اليوم يلعبون بعواطف ذوي المعتقلين، ويستغلوا ظروفهم لأخذ الأموال عبر سمسرات متواصلة.” لكن (فرح) أصرت على القول إنه وبعد كل هذا العسف والضيم الذي جرى لمعتقلينا فإنه ” لا هدنة مع النظام، وبكل تأكيد لن نسامحه أو نجد له أية مبررات لما فعله، ولن نقبل بالعدالة الانتقالية إن كان فيها مسامحة، لأن ما فعله لا يمكن أن يستوعبه عقل، إنها سياسة التعسف، والطريقة المجرمة والوحشية، وننتظر آخرة هذا النظام وهذا الاجرام الأسدي بحق الناس كل الناس إن شاء الله “.
هذا نموذج عياني من مئات آلاف النماذج التي مازال يعاني منها الشعب السوري، في معتقلات النظام السوري، ومازالت أسرهم تعيش يومًا إثر يوم حالة الانتظار الصعبة، ليعود أبناءهم المغيبين في سجون الأسد، بينما يقف العالم أجمع فاغرًا فاه، دون أن يؤتي أي أكل، تحريكًا لواقع وسياسة الاعتقال الأسدي التي ما برحت مستمرة، وممعنة بالقتل والتعذيب، دون أي وازع من أية قيم إنسانية، أو حضارية أو دينية، حتى باتت سياسة هدر إنسانية الانسان في سورية من قبل هذا النظام سياسة ممنهجة بكل ما للكلمة من معنى، وأضحت قضية المعتقلين متجاوزة لكل حد، وتتنافى مع كل القوانين الإنسانية الأممية التي شرعتها حضارة الشعوب في العالم خدمة للإنسانية جمعاء.
المصدر: موقع (مع العدالة)