مدى الفاتح
ولّد تعدد المنابر الإعلامية وثورة الاتصالات والفضائيات حاجة ماسة في مجال التحليل السياسي، ما ساهم في تعدد الخبراء السياسيين والاستراتيجيين المتاحين في كل الأوقات، والمتحدثين في كل شأن، فدخلت أعداد متزايدة من الهواة لهذا المجال، بما يشمل أكاديميين في صنوف أخرى من العلوم أو غيرهم ممن «تسلّلوا» بشكل أو بآخر لهذا المنبر الإعلامي أو ذلك، من دون امتلاك أدوات التحليل السياسي ومن دون إلمام يمكن التعويل عليه بحقيقة الأوضاع في منطقة معينة أو بلد من البلدان.
في الحالة السودانية، وينطبق ذلك على حالات أخرى أيضاً، كان يتوجب على من يفرضون أنفسهم محللين وخبراء، أن يغوصوا في الخريطة الاجتماعية والسياسية، وأن يفهموا بعمق علاقات القوى التي تحكمها. فقط بالفهم الكامل لمسارات القوى المتباينة وتقاطعاتها، يمكن لصاحب التحليل أن يحاول قراءة المستقبل، لا على طريقة قراءة الفنجان، ولكن باستخدام طريقة هي أقرب للطرق العلمية للتنبؤ بالطقس.
يكاد يتفق السودانيون على حقيقة أن أغلب من يتصدرون للحديث عن واقعهم السياسي وتطوراته من الأشقاء العرب، وهذا إبان التطورات التي شهدها السودان مؤخراً، ولكن حتى قبلها، أن أغلبهم يتحدثون بلا هدى، فتارة يغلب على تحليلهم الأمنيات أو «الرغبوية» على حساب القراءة الواقعية لمجريات الأحداث، وتارة يقرأون الحدث السوداني بمنظار أحداث دول الجوار، معتبرين أن ما يجري ليس سوى نسخة مكررة منه.
ربما يكون أحد أسباب ذلك هو التعقيد الملازم للحالة السياسية السودانية، فأنت تتحدث هنا عن بلد بحجم كبير، وبتقاطعات سياسية لا تنتهي بين المناطق الجغرافية المختلفة والأحزاب والجماعات التي بعضها مسلح، وكثير منها يملك ثقلاً لا يمكن تجاهله، إضافة إلى مجتمع متباين بين القبلية والتقليدية وروح الحداثة والمدنية. هو بلد تعددي بطبعه، بمعنى تعدد المراكز وتعقّدها، وذلك بعكس دول ومجتمعات أخرى قد يمكن وصفها بالبساطة، إذ لم تحوِ القدر ذاته من التعدد الإثني والثقافي والهوياتي، ولم تتشكّل فيها البنى السياسية أو تنضج، نسبياً، كما هو الحال هنا. بهذا، فإنه يحدث أن يعيش شخص ما في الخرطوم ويكون سودانياً ملماً باللهجات واللكنات السودانية، لكن من دون أن يوفر ذلك كله له فرصة الفهم المتكامل لما يدور في خضم الأحداث المتصاعدة والمتسارعة، كما قد يحدث أن يعيش شخص ما في أحد الأقاليم من دون أن يكون متابعاً بالضرورة لكل ما يحدث في المناطق الأخرى.
قياس الحالة السياسية السودانية بتجربة الربيع العربي مثلاً، وهو ما ينتهجه الغالب الأعم من المتحدثين والخبراء، إنما يبنى على فرضية مفادها أن المعطيات المتماثلة تقود بالضرورة لنتائج متماثلة. في حقيقة الأمر فإن هذه الفرضية صحيحة إذا ما تعلقت بالقواعد الفيزيائية، لكن في مجال السياسة، ومهما كان قدر التشابه، فإنه تكون هناك على الدوام مساحات للخصوصية المرتبطة بالتطور السياسي في منطقة معينة، على سبيل المثال فإن ارتباط الثورة التونسية بشخصية بوعزيزي، الذي أحرق نفسه غضباً وحنقاً على الدولة التي ظلمته، لا يعني أن هناك قاعدة تقول إن حرق شخص لنفسه يقود بالضرورة لثورة على النظام القائم، وبالفعل فقد تلا ذلك الحريق المؤسف عدة حوادث مشابهة، من دون أن تقود أي منها لعملية تغيير أو لثورة شاملة.
الاهتداء بتجارب الربيع العربي وغيرها من الثورات الإقليمية مفيد أحياناً، لكن الاكتفاء بها وتصوير الحدث السوداني، كمجرد مرآة لما سبق، وأن شهده الناس، لا يعدو أن يكون نوعاً من الاستسهال الفكري الذي يرى فيه بعض السودانيين نوعاً من الإهانة، خاصة حين يتم تجاهل تجاربهم السابقة، واعتبار أن التاريخ الثوري العربي إنما بدأ عام 2011.
يمكن أن نقول مثل ذلك عن القوالب المعلّبة التي يضع فيها أولئك المحللون الحدث السوداني، أخص بالذكر هنا المثالين المتكررين «لانقضاض الجيش على السلطة» أو «قيادة الإسلاميين للحراك»، فقد بات يتضح الآن أن سيناريو الأحداث في السودان لا يمكن قياسه على أي سيناريو آخر تآمر فيه الجيش مع مكون ما للاستحواذ على السلطة، بل يمكن القول إنه لا يوجد أي مؤشر واضح حتى الآن على نية المجلس العسكري الانتقالي، الاحتفاظ بالسلطة، أو حتى على التلكؤ في تسليمها للمدنيين، على العكس يقوم المجلس بالتعامل بحذر مع المطالبات الثورية التي ترده، والتي تضغط باتجاه قيامه بمحاسبات أو مصادرة أموال أو حل مؤسسات، فلا يقوم إلا بما يرى أنه أساسي ولا سبيل لتأخيره منها، وذلك لأن هذه الإجراءات ستؤدي، في حالة التوسع فيها، لتسلمه سلطة تنفيذية وتشريعية وقانونية هو غير حريص على تسلمها، بل يدعو كل صباح الجهات المعنية بالتغيير للتوحد والقيام بما يلزم من أجل المساعدة في تسليم السلطة لحكومة تنال رضا الجماهير.
هذا الواقع كان عصياً على فهم كثير من المراقبين المسجونين في أطر الأمثلة الإقليمية، وهو ما دعاهم للإنكار على الجموع اختيارها ساحة القيادة العسكرية كمكان للتظاهر. في حقيقة الأمر فإن اختيار الزمان الذي تيمّن المتظاهرون فيه بالشهر الذي شهد حالة احتجاج شعبي مماثلة، عجّلت بسقوط الرئيس جعفر نميري عام 1985 واختيار المكان كذلك، بما يحمله من دعوة ضمنية للجيش بالتدخل لحل حالة الانسداد السياسي، وأيضاً لحقن دماء المدنيين، كل ذلك لم يتم مصادفة بقدر ما تم إنجازه بوعي وتصميم نابعين من توافر الثقة في الجيش، فكانت في ذهن الثوار الصورة الناصعة للمشير عبد الرحمن سوار الذهب، الذي ضرب مثلاً نادراً حين اقتصر دوره على الاستجابة لصوت الشعب، ومن ثم العمل على تسليم السلطة كاملة لممثليه.
أما الإسلاميون فهم لاعب مهم، ولا شك في مختلف الدول العربية، بل والإسلامية، لكن دورهم في السودان تميز ببعض الخصوصية، فقد كانوا داخل السلطة باعتبار توجه النظام المعلن، وباعتبار وجود تحالف مع مجموعة سياسية إسلامية مؤثرة، «الحركة الإسلامية»، كما كانوا في الوقت ذاته خارج السلطة، نظراً لاحتفاظ طيف واسع من الجماعات والأحزاب ذات المرجعيات الإسلامية بمواقف ظلت تتأرجح عبر السنين بين الولاء مع التحفظ، والمعارضة أو العداء التام.
المهم أنه، وبغض النظر عن موقفهم من النظام السابق، فإن الإسلاميين، في غالبهم، لم يكونوا تحت ضغط كبير، ولم يتعرضوا لحملات قمع أو اضطهاد خلال العقود السابقة، أما مطالبهم فاقتصرت على مزيد من تغليب المظاهر الإسلامية، أو على التحكيم الفعلي للشريعة. هذه الحقيقة تجعل التعامل معهم كعامل رئيس من عوامل التغيير غير سائغ، رغم انضمام أعداد كبيرة من شبابهم للحراك منذ بداياته. شباب الإسلاميين لم يكونوا يرفعون شعارات إسلامية، بل كانوا ينادون، كغيرهم، بالديمقراطية ورفض الاستبداد، ولعل أول ظهور مستقل لمجموعة إسلامية، بالتعريف المنهجي للكلمة، كان إبان الدعوة لمسيرة «نصرة الشريعة»، التي أراد أصحابها بها الرد على محاولات بعض قوى اليسار الهادفة لاحتكار تمثيل الثوار. تلك المسيرة ألغيت بعد لقاء بعض منظميها مع قيادات المجلس العسكري، التي أكدت بشكل لا يقبل اللّبس أن المساس بهوية الشعب وبدينه لن يكون مقبولاً. يظل الخوف على الثورة من محاولات الاختطاف والتوظيف مشروعاً، لكن المهم أن يبنى ذلك الخوف على اشتراطات واقعية لا على قياسات متخيلة.
المصدر: القدس العربي