عمار ديوب
صعّدت روسيا والنظام السوري قصفهما على ريفي حماة الشمالي والغربي وجنوب إدلب، وكأنهما يريدان استباحة إدلب بأكملها، وقصفا منشآت طبية وتعليمية وقرى وبلدات، وطاول التهجير مئات ألوف الناس. جاء هذا الجديد على أثر تسريباتٍ وصفقاتٍ بين روسيا وتركيا، فالأخيرة تأخذ تل رفعت وقرىً تسيطر عليها الوحدات الكردية، وروسيا تتوسع في المناطق منزوعة السلاح وفق اتفاق سوتشي، فتصبح منزوعة السكان، ومناطق عسكرية خالصة لصالح الروس، وتسيّر فيها الدوريات.
لتركيا التي هي أحد الضامنين لاتفاق سوتشي 2018، حساباتها في عدم تصفية الفصائل الرافضة هذا الاتفاق، مثل هيئة تحرير الشام وجيش العزة، ولكن لروسيا مصلحة في ضبط كل العمل العسكري في إدلب؛ أي على حدود المناطق التي تسيطر عليها روسيا، وللأخيرة مطارات وثكنات وجنود ومرافئ، وبالتالي تريد تنفيذ اتفاق سوتشي كاملاً، ولو أدى الأمر إلى إنهائه وليس تطبيقه، واحتلال إدلب أيضاً. ما تمنع روسيا عن إنهائه، كما حال اتفاقيات خفض التصعيد في درعا وغوطة دمشق وحمص الشمالية، والاكتفاء بتطبيقه، ويؤكد أن العملية لن تكون واسعة، شروطٌ دوليةٌ تخص إدلب، إذ هناك رفض دولي لاجتياح كامل. وقد أصدرت وزارة الخارجية الأميركية بياناً رافضاً لها؛ فسوف يفضي إلى موجةٍ جديدة من التهجير، وستطاول ملايين السوريين، وهذه لا تحتملها لا تركيا ولا أوروبا، وهناك أيضاً عدم جاهزية روسيا لحرب استنزافٍ طويلة، سيما أن الخلافات بينها وبين إيران تتصاعد، وهي تسعى إلى فرض سيطرة كاملة على شمال حماة وجنوب إدلب، وإخراج إيران نهائياً من تلك المنطقة. وبالتالي، ليس هناك قوات برية تابعة للروس، وتكون قادرةً على حرب طويلة وصعبة، حيث هناك عشرات الألوف من المقاتلين في إدلب. والآن يثير التصعيد التحشيد العسكري، وستتشكل بالضرورة غرف عمليات قوية. وهذا ما سيوحد الفصائل المختلفة في إدلب (هيئة تحرير الشام، الجبهة الوطنية، الجيش الوطني، جيش العزة، وربما حراس الدين والجهاديين الأجانب). لهذا لن تصعد روسيا من معركتها الحالية. تريد تطبيق اتفاق سوتشي، وإجبار جيش العزة، وهيئة تحرير الشام، على الموافقة عليه، والسماح بتسيير دوريات روسية تركية مشتركة. يرفض “العزة” بشكل قطعي ذلك، وتطلب “تحرير الشام” أن تسير الدوريات برعايتها! طبعاً يستهدف اتفاق سوتشي إنهاء “تحرير الشام”، وتصفية جيش العزة، وهناك بديل تركي عنهما، الجيش الوطني، والجبهة الوطنية.
ويعود تأخر تركيا في الحسم إلى أسباب متعددة، منها كما جاء أعلاه الخلافات عن الحصص في تل رفعت، وأيضاً صعوبة الحسم ضد هيئة تحرير الشام خصوصا، وهناك عدم الاتفاق الكامل بخصوص شرقي الفرات، والتي تتكثف النقاشات التركية الأميركية حولها، وبما ينشئ منطقة آمنة بإشراف تركي، وهذا أيضاً عنصر خلاف بين روسيا وتركيا، فروسيا تريد السيطرة على شرق سورية، حيث ثروات سورية النفطية والزراعية والمائية. وبالتالي هناك أسباب متعددة للتصعيد الروسي، وبما يُجبر تركيا على مزيد من التوافق مع روسيا، بخصوص تطبيق اتفاق سوتشي والمنطقة الآمنة في شرق سورية، وبخصوص اتفاقيات تركيا مع أميركا، والتي تشهد تقارباً، وعلى أكثر من صعيد. رفض تركيا التصعيد الأميركي ضد إيران لا يعتد به كثيراً.
تذهب كل مقاربةٍ للتصعيد الأخير نحو المقارنة مع مناطق خفض التصعيد الأخرى، والتي استُخدمت الاتفاقيات تلك فيها لإنهاء “تحرّرها” من النظام، وبالتالي عادت إلى سيطرته. الوضع في إدلب خطير للغاية، وهنا على الفصائل الموجودة هناك الارتقاء إلى مستوى المشكلة، فإدلب حاضرة على طاولة البحث بين كل من تركيا وروسيا وإيران وأميركا، وهي لن تُترك “مستقلة”، بل ستفرض عليها اتفاقيات أخرى، وليس فقط اتفاق سوتشي. الآن وكما الحال مع فصائل درعا والغوطة وحلب وحمص، تتحمل فصائل إدلب المسؤولية. يقع على جيش العزة بالتحديد احترام اتفاق سوتشي، وهنا تكمن مشكلة، فهذا الجيش مدعوم أميركياً، وتشدده يجد تفسيره انطلاقاً من “إزعاج” أميركي للروس، ولكن موقفه أوجد حجةً للروس لذلك التصعيد، وتهجير كل السكان من مناطق القتال. وبتصعيدها، لا تكتفي روسيا بأن تُهجر سكان قرى كثيرة، وهي تهجر سكان بلداتٍ خاضعة للنظام في المنطقة ذاتها، بقصد بناء منطقة عسكرية جديدة لها في شمال حماة، وبالتالي لن تصمت أبداً عن أي فصائل عسكرية خارجة عن السيطرة التركية. جيش العزة وهيئة تحرير الشام، خارجان عن ذلك، ويرفضان الدوريات المشتركة، ويرفضان إخلاء بعض القرى المشمولة باتفاق سوتشي. تعني هذه الأفعال حرباً قوية من الروس وحلفائهم في تلك المنطقة، وبالتالي تتحمّل الفصائل مسؤولية كبيرة في مواقفها تلك، وهذا ما يدفع إلى القول إن روسيا لا تحتاج إلى حجة للتصعيد، وهي تسمح لقوات النظام بتكرار ذلك.
وباعتبار أن الفصائل تدعي أن مواقفها تنطلق من الدفاع عن حقوق الناس، فإن الموافقة الكاملة على اتفاق سوتشي، بين الرئيسين التركي أردوغان والروسي بوتين، أكثر من ضرورية في هذه المرحلة، وطبعاً كان يجب تنفيذ بنوده منذ لحظة توقيعه، في 2018. هيئة تحرير الشام وجيش العزة يتحملان مسؤولية إذاً، وهناك قضايا أخرى، يقع على الهيئة بالتحديد إنجازها، وتتصل بتسليم كل الجوانب الخدمية لحكومة ومجالس محلية منتخبة وممثلة للسكان، ومحاربة كل أشكال الجهادية المتبقية في المدينة، وتنظيف نفسها من العناصر والكتل الجهادية. ستجدد هذه النقطة التصعيد، في حال توقف التصعيد الحالي، ولم يصل إلى طرح مصير الجهاديين في إدلب من حراس الدين وسواهم وهيئة التحرير نفسها.
قصدت من التحليل أعلاه أن الفصائل المعارضة لروسيا وللنظام معنية بنزع كل حجة تنهي اتفاق سوتشي، وتؤدي إلى كوارث طالما فعلتها روسيا وحلفاؤها في كل سورية، وهذا ما يطرح مصير هيئة تحرير الشام نفسها. إذاً للتصعيد الحالي أسبابه، وسيكون هناك تصعيدٌ آخر، وسيشمل مصير الهيئة، فهل تعي الأخيرة مسؤولياتها الراهنة والمستقبلية وتحلُّ نفسها؟
المصدر: العربي الجديد