صفحات كثيرة قلّبتها الذاكرة، وفقدنا معها الكثير من التفاصيل، وأخذتنا الأيام والأحلام والمسافات وربما التجاهل ومحاولة النسيان والتأقلم ومواجهة ظروف الحياة والغربة المخيمة على وجوهنا وأرواحنا، والخوف الذي صنع منّا أشباحًا تمشي في الظل، وصندوقًا أسودًا للذكريات أحكمنا عليه الإغلاق، ثم هربنا لنشتري ثوبًا جديدًا ووجوهًا جديدة وملامح جديدة لنهرب بها منك … لنهرب من حسنك، وجميل عطرك، ولنفر من احتضانك، ومجانبة لقائك، بل ولنهرب من ذواتنا وخيباتنا ومن الشوق لأحبتنا وفلذات قلوبنا، لتمر بك الأيام وأنت واقف في هذه المحطة، فتنقطع أسباب الوصال، ويغدو اللقاء من المحال. دون إرادتك وفوق رغبتك تجد نفسك وحيداً غريباً. تنظر حولك فلا تجدهم. تبحث عنهم فلا تجدهم. تصرخ تنادي فلا يرجع إليك إلا صدى صوتك. وعندما ينال منك التعب تنام فتحلم بهم، وتسيل دموعك أنهاراً شوقاً إليهم، وعندما تصحو يغدو الواقع كابوساً مرعباً. تنظر إلى الناس من حولك، وتشعر أنك تريد أن تصرخ فيهم: أن قفوا. فالحياة قد وقفت منذ غدوت وحيداً بعيدًا طريدًا، ست وثلاثون عامًا أشيح بوجهي كيلا أرى شحوبك، أو أسمع أنينك وتنهدك وأنت تنازعين الروح. وعلى كل شارع وفي كل ركن يترصد الغرباء لحظات الفرح، وتمرّ جحافل المغول والتتار على الجثث.
من هنا أعلنوا الانتصار على القمم، ومن هنا، من تحت الركام أعلنّا الولادة، وأرضعنا صغارنا حب الشهادة من هنا، من جذور التاريخ وأصل الحضارة، هنا تكسّرت هِمَم الغزاة على الأسوار، وارتدت سيوفهم إلى أعناقهم وبطشت بأرواحهم، ولكنها الغفلة عن المنافقين والباطنية باسم الإنسانية والدين، من يفتك البلاد ويهتك الأعراض وتنحني لها الأسوار . إلا أمام بابها وشموخ حصونها وأصالة أهلها، فهنا حماه، هنا من خبرت خبثهم، وعلمت حالهم وكشفت عورتهم، ومن صدحت بِلائِها لتصحوا البلاد الغافلة والمدن النائمة. يقف المحتل الفرنسي عن ملاحقة الثوار حين يلتجئون للمساجد، فهو يفهم ما تعنيه مجاوزة عتبة المساجد، ولم يكن خوفًا بقدر ما تعنيه حرمة بيوت العبادة التي بقيت مصانة إلى أن صدّروا لنا من بيئتنا ومن يتكلم لغتنا ومن تخفي ابتسامته جميع شرور الشيطان، المفوّض الجديد كان أكثر حقدًا وأشد شراسة حين قصف واقتحم مسجد السلطان لمّا التجأ إليه من كشف وجه الأبالسة، ومن وقف في وجه
مشاريعهم الخبيثة في تغيير الثقافة ومعالم الأخلاق والحضارة بإنتاج دين البعث الجديد وشعاراته المضللة فبانت عوراته، وانكشف زيغه، في نيسان وقفت المدينة في وجه الطغاة، وفي شباط وفي كل يوم وعام مضحّية بخيرة أبنائها فداء للدين والوطن، وارتوت أرضها بالدماء الطاهرة في معركة الضمير أمام آلة الحرب وسفالة القتلة، في مشهد يجدد ذاكرة احتلال الصليبيين للقدس في أدواته وبشاعته. خمس وأربعون ألف منارة ستضيئ لنا درب الحرية، وستنبت بعد سنين القهر أمّة تقدم مليون شهيدًا من أبنائها، وملايين أخرى على أن تركع للظلم مجددًا. ألم يخبروه بأن الطيبة لا تليق بالأنذال. وأن الكرم لا يستحقه من كان منبته الحقد ألم يخبروه بأنك بركان وزلزال ولعنة للغزاة. ألم يخبروه بأن الموت يحيينا، يا أيتها المدينة يا أيتها الجميلة، إسألي عاصيك واسألي أشجار التين والرمان، اسألي كل الأزقة في ذاكرتنا، وكل الصور التي لا تغيب، وأشهديهم كم نحن ممتنون لك، وكم نحن مفتونون بك.